لعل ابرز وصف ينطبق على رئيس الحكومة اللبنانية الاسبق فؤاد السنيورة، هو حافظ ارث صديق عمره الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
السنيورة رافق الرئيس الشهيد منذ قرر العودة الى لبنان، وكان اقرب مستشاريه اليه، وحافظ اسراره وكاتمها. وكان « وزير مال الظل » ومستشار الليل والنهار، والصديق الصدوق الذي حافظ وما يزال يحافظ، حتى اليوم، على ود العلاقة التي جمعته بالرئيس الشهيد .
لحظة استشهاد الرئيس الحريري، لم يتنطح السنيورة لاستلام زمام الزعامة، وهو كان الاولى بها! فلا « سعد » الحريري كان مهيّئاً لخلافة والده، ولا « بهاء » بطبيعة الحال، ولا شقيقته « بهيه »! وبالتأكيد، ليست زوجته نازك، التي حاولت ان تسوق نفسها لخلافته قبل اربعين زوجها.
ولكن، السنيورة وقف خلف قرار العائلة ووضع نفسه بتصرف سعد الحريري، ووالاه كما والى والده الشهيد من قبل، على السراء والضراء، وما زال.
حين كان سعد الحريري يصيب في السياسة كان السنيورة يتقدم صفوف المصفّقين. وحين كان يخطيء، من دون ان يستشيره، كان يلتزم منزله ويعتصم بالصمت، وما زال!
وقف ضد التسوية الرئاسية، بعد ان فاض كأس اخطاء “إبن الحبيب“! ومع ذلك لم يجاهر بموقفه ضد سعد الحريري، بل اعترض على التسوية، وكان محقا، بشهادة سعد الحريري نفسه.
لم يسعَ السنيورة يوما الى الزعامة، مع انها كانت عُرِضَت عليه بين الحين والآخر، إلا أنه كان وما يزال زاهدا بها ولا تعنيه من قريب او بعيد.
في انتخابات العام 2018 النيابية، حار المحللون في موقف السنيورة منها، هل سيترشح ام لا؟
وردا على سؤال، أجاب السنيورة، :”حقيقةً، الامر الامر لا يهمني، لقد شغلت جميع المناصب، من النيابية الى الوزارية الى رئاسة الحكومة، فمنصب نائب لدورة ثانية لن يضيف الى سيرتي ومسيرتي اي جديد، واذا ترشحت وخسرت المقعد النيابي، فلن تخسر سيرتي ومسيرتي، ولذلك لكل وقت حكمه“! ولم يستطع احد ان ينتزع منه موقفا بشأن ترشحه حينها، مع انه لم يترشح للانتخابات في ظل القانون الاعوج الذي وافق عليه سعد الحريري، مع علمه المسبق بأنه خاسر لا محالة من كتلته النيابية. فاستشعر السنيورة ان سعد الحريري اوغل كثيرا في تسوياته الرئاسية والانتخابية، فآثر الابتعاد والمراقبة عن بُعد، على أن يقدّم يعي رأيه واستشارته إذا ما تم سؤاله.
دخل سعد الحريري التسوية الرئاسية وبفريق من المستشارين الذين يُصَدٍّقونه، ولا يَصدِقونه القول! وبأسرع ما كان متوقعا، انقلبت عليه التسوية محليا واقليميا، وصولا الى اتخاذه قرار تعليق العمل السياسي بصفته الشخصية ولتيار المستقبل كذلك. كل ذلك، والرئيس السنيورة يواكب عن بُعد حينا وعن قُرب عبر نادي رؤوساء الحكومات السابقين حينا آخر، ويتلو بيان اجتماعات نادي الرؤساء ويساهم في تدبيجه.
بعد قرار التعليق كان على السنيورة ان يحدد موقفه بعد ان شخصت اليه الأعين، بوصفه الاقرب الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والوحيد الذي خذله سعد الحريري مرارا في حين لم يخذله السنيورة يوماً! وفي ذاكرة اللبنانيين « الآذاريين »، كان السنيورة الرئيس الصلب، الذي لا يساوم، والذي اعتصم في السرايا الحكومي وهي محاصرة من قبل رعاع قوى الثامن من آذار، يعزف العود، ويدير البلاد، رغما عن أنوفهم! حتى أنه استقدم شيخا ليقيم الصلاة في السرايا ولم يغادرها لحظة، كي لا يحدث فراغا حكوميا. وردا على سؤال وهو محاصر في السرايا قال السنيورة: « شو بيقرا السيد حسن بالفنجان؟ ».
« إصمدوا يومين، ولا تذهبوا إلى « الدوحة »!
وبعد غزوة بيروت في السابع من أيار، نصح الرئيس السنيورة كل قوى 14 آذار، بعدم الذهاب الى مؤتمر الدوحة، وقال لهم يومها: « اتركوا زعران حزب الله بالشارع، ما فيهم يتحملوا اكتر من يومين! وما تروحوا عالدوحة وميزان القوى مختل! فيها استسلام وشروط لصالح حزب الله“!
بالطبع لم يستمع احد للسنيورة وذهبوا الى الدوحة بدافع الخوف والعجز، ووقعوا على الثلث المعطل الذي عطل البلاد منذ ذالك التاريخ.
مع قرار التعليق، وضع الرئيس السنيورة خريطة البلد السياسية امامه ووجد ان غياب « تيار المستقبل » عن الساحة السياسية، سيعني فراغا قاتلا، واخلالا بالتوازن السياسي الداخلي لصالح حزب الله. وسيكون من الصعب اعادة عقارب الساعة الى الوراء بعد اربع سنوات، المهلة المفترضة لتوقيف التعليق، إذا تم توقيفه. وبالتالي، عليه ان يبادر الى للحؤول دون انزلاق الامور على الساحة السُنِّية الى تعميق الاحباط بما لا يقاس بالاحباط المسيحي في تسعينيات القرن الماضي.
وبعد مروحة اتصالات ومشاورات، عاد السنيورة ليتصدر المشهد السياسي، ويخلط الاوراق من جديد، خصوصا الانتخابية منها، ويعيد الى « السياسة » اعتبارها، بعيدا عن حسابات النكد والكيدية، والحسابات الشخصية التي حكمت المرحلة السابقة. فأعلن رفضه عدم المشاركة في الانتخابات ترشيحا واقتراعا، واخلاء الساحة لحزب الله ولاتباعه، لملء الفراغ الذي خلفه قرار الحريري تعليق العمل السياسي.
السنيورة، كان حذرا ودقيقا في مبادرته الاخيرة، بحيث ابتعد عن الحديث باسم « تيار المستقبل »، او حتى باسم « الحريرية السياسية ». فتحدث باسم “أهل السنّة والجماعة“، ودعاهم الى المشاركة في الانتخابات بكثافة ترشيحا واقتراعا! وهو تاليا يعلن للمستقبليين احترامه لقرار زعيمهم تعليق عمله السياسي، ويعلن، ايضا، رفضه ان يحتل نواب من التيار العوني ومن حزب الله مقاعد نواب « المستقبل »!
رد فعل « المستقبل ». على مبادرة الحريري جاء متسرعا، وعاطفيا!
ولكن السنيورة استوعب الردود الانفعالية بسرعة، خصوصا انه هو الضنين بالحريرية السياسية، وهو الوحيد الذي سيحفظ مكان وموقع سعد الحريري حين يقرر العودة الى الساحة السياسية. وليس من سيملأ فراغ « المستقبل » من نواب حزب الله، ولاحقا من وزراء موالين للحزب من السُنّة.
في يقين السنيورة ان إخلاء الساحة السنية لحزب الله، سيخلق امرا واقعا سنيا جديدا، انطلاقا من تجربة الموارنة عام 1992، حين قاطعوا الانتخابات وفاز نواب باربعين صوتا، وخدموا دورة انتخابية كاملة!
وهو لا يريد ان يستنسخ هذه التجربة مع السنة، فحدّدَ عنوان المعركة الانتخابية، في مواجهة حزب الله وسلاحه وهيمنته على الدولة!
وهو شعار فيه الكثير من الاغراء للسُنّة ولغير السُنّة في لبنان، وهو شعار توحيد ما تبقى من قوى 14 آذار المنحلة، لخوض الانتخابات النيابية موحدة واستعادة الاغلبية النيابية للقوى السيادية. وحين يقرر الحريري تعليق قراره تعليق عمله السياسي، سيجد الارضية جاهزة لاستقباله، وسيكون القرار الاحب على قلب السنيورة ان ينسحب الى الخلف ليتقدم سعد الحريري.