تجاوز ماكرون للعثرات وتركيزه على العلاقة الحوارية مع إيران وصيانة الأمن الإقليمي الجماعي لمنطقة الخليج العربي لا تتعارض مع الاهتمام بالحفاظ على المصالح الفرنسية الاقتصادية والاستراتيجية.
تزايد منسوب القلق الفرنسي من “المرحلة الدقيقة” في البرنامج النووي الإيراني مع اقتراب التوصل العملي إلى إنتاج سلاح نووي، رغم التحذيرات الثلاثية الفرنسية البريطانية الألمانية من هذه الخطوة، ومع تأكيد الجانب الأوروبي مجددا بالتفاهم مع الولايات المتحدة، على أهمية التعامل مع برنامج الصواريخ الباليستية ودعم الاستقرار الإقليمي.
ويأتي ذلك بعد إعلان طهران أن الاتفاق النووي لا يحتاج إلى وسيط، وذلك تعقيبا على طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التوسّط بينها وبين الولايات المتحدة التي انسحبت أحاديا منه. وكان مبرر الرفض أن “اتفاق 2015 كتب في أكثر من 150 صفحة”، مضيفا “عندما يكتب نص طويل ودقيق إلى هذا الحد، هذا يعني عدم وجود حاجة لإعادة مناقشته”.
لكن ذلك يبرهن أن اتفاق فيينا كان في الأساس اتفاقا ثنائيا بين واشنطن وطهران وكان مغلّفا بطابع دولي. وهذه الخيبة الماكرونية ليست بجديدة على الدروب المتعرّجة للعلاقات الفرنسية – الإيرانية.
يردّ ماكرون على اللامبالاة أو الإهمال الإيراني ويحاول ممارسة ضغط منسق مع الأوروبيين، مع التشديد على تمسكه بدور “الوسيط الأمين” في الملف النووي الإيراني. وفي سياق جهوده ستندرج زياراته المرتقبة نهاية مارس الحالي إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر.
ومما لا شك فيه أن هذا التحرّك سيركز على الصلات الثنائية وقبل ذلك على الملفين الإيراني واللبناني، وسيكون مناسبة لتمرير رسائل سياسية إلى طهران.
وحتى اللحظة، وبالرغم من أن جهوده المتواصلة منذ وصوله إلى الإليزيه في 2017 لم تكلّل بالنجاح، فقد تحمّس ماكرون مع تمركز جو بايدن في البيت الأبيض مراهنا على وساطة كادت تنجح في سبتمبر 2019 وذلك حين تراجع الرئيس حسن روحاني في آخر لحظة عن لقاء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بطلب من المرشد الإيراني علي خامنئي.
حسب التسلسل التاريخي كانت الدبلوماسية الفرنسية أول من انتبه للبرنامج النووي الإيراني بعد حرب العراق في 2003، وكانت وراء إطلاق المفاوضات الأوروبية مع طهران، والتي مهّدت لاحقا للمفاوضات وفق صيغة 5 + 1 التي توصلت إلى اتفاق فيينا في 2015، وتخللت ذلك فرص ضائعة أبرزها في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العام 2005 عندما توصل إلى اتفاق مع حسن روحاني، سكرتير مجلس الأمن القومي حينها، وتم إحباطه بقرار من خامنئي.
يجدر التذكير أن الإمام الخميني كان قد صنّف فرنسا بـ”الشيطان الأصغر” متناسيا أنها استضافته وانطلق منها قائدا للثورة. بعد ذلك ومقابل دعم فرنسا للعراق في الحرب ضد إيران أمرت طهران بعمليات خطف الرهائن الفرنسيين في لبنان وقتل الجنود والدبلوماسيين الفرنسيين في لبنان والقيام بأعمال إرهابية في العاصمة باريس.
بالرغم من هذه البدايات الصعبة والمواجهات عادت العلاقات للإقلاع مع وصول محمد خاتمي إلى الرئاسة. لكن موقف باريس المتحفّظ على أطروحات محمود أحمدي نجاد ومجاراتها الانتفاضة الخضراء في 2009 (على خلاف موقف باراك أوباما)، بالإضافة إلى التشدّد في مفاوضات الملف النووي من نيكولا ساركوزي إلى لوران فابيوس، والذي زاد من الفجوة السياسية وأتى النزاع السوري مرتبطا بالوضع اللبناني ليعمّق الخلاف بين الطرفين.
بالرغم من التعرّجات والتناقضات، تاريخيا كان هناك إعجاب ثقافي متبادل بين الفرنسيين والفرس امتد من حافظ وعمر الخيام إلى “الرسائل الفارسية” لمونتسكيو، حتى حقبة هنري كوربان وإسهاماته حول الإسلام على الطريقة الإيرانية. لكن من الناحية السياسية، كانت “فارس” القديمة مدار تجاذب روسي – ألماني – أنغلوسكسوني، ولم يكن لفرنسا نفوذ يذكر فيها.
بيد أن العلاقات الحديثة المستجدة بدأت بالنووي وتعقّدت معه. والآن يحاول ماكرون إعادة إحيائها وتعزيزها من بوابة الوساطة حول الملف النووي.
تنطلق باريس نظريا من خشيتها من انتشار أوسع لأسلحة الدمار الشامل في منطقة مضطربة، وكذلك ترفض السياسات الإقليمية التوسّعية. ومن دون شك كان المشروع الإيراني في التمدّد نحو البحر المتوسط تحت المجهر الفرنسي لأنه مشروع نزاع مفتوح في الإقليم. لكن كل التاريخ المثقل أصبح وراء صانعي القرار الفرنسي، وتصوروا أنه بعد اتفاق 2015، أتى وقت البازار ولعبة الشطرنج وأصبح الجهد يتركز على أخذ حصة من “الكعكة الإيرانية”.
بيد أن حقبة ترامب بدّدت الأحلام الوردية الفرنسية والأوروبية في الاستفادة من الألدورادو الإيراني الواعد، وزادت من النفوذين الروسي والصيني على بلد ما بين الخليج وبحر قزوين.
ولم تتنبه باريس ولندن وبرلين وروما وغيرها من العواصم الأوروبية إلى أن لاعب الشطرنج الإيراني يتقن فن توزيع الصفقات في البازار ويربط الكثير منها بتقارب سياسي أو بتراجع محدد.
ترتبط رحلة حياكة سجادة تجديد العلاقات المتجددة بين طهران وباريس بتطور الوضع الإيراني الداخلي وحركات بركان الخليج والشرق الأوسط والملف اللبناني. ولهذا اندفع ماكرون منذ 2018 إلى اليوم كي يلعب دورا يكرّس دبلوماسيته الوسيطة، لكنه في الملف النووي الإيراني أو إزاء مبادرته اللبنانية، لم يسجل ماكرون حتى اللحظة أي اختراق أو أي مكسب.
يتجاوز الرئيس الفرنسي العثرات ويركز على العلاقة الحوارية مع إيران وصيانة الأمن الإقليمي الجماعي لمنطقة الخليج العربي، وذلك لا يتعارض مع الاهتمام بالحفاظ على المصالح الفرنسية الاقتصادية والاستراتيجية.
لا تعتبر إيران ماكرون صديقا لها، لكنّ أوساطا إيرانية لا تخفي امتنان طهران من فرنسا لأن ماكرون عارض الرئيس الأميركي ترامب إزاء الاتفاق النووي. وتعتبر طهران أنها منحت الكثير للجانب الأوروبي وخصوصا الصفقات الضخمة ولم تحصل على المقابل.
بعيدا عن لغة المصالح المباشرة ومع تمركز إدارة بايدن المصمّمة على العودة إلى الاتفاق النووي، تخشى الأوساط الأوروبية المماطلة قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو القادم، وفي هذا الوقت ينظر الأوروبيون بقلق كبير إلى الإعلان الأخير لرئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي، إنتاج نحو 25 كلغ من اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 في المئة خلال الشهر الماضي، مهدّدا برفع النسبة إلى 60 في المئة.
ومن هنا فإن اجتماع 5 + 1 التقني، الذي من المفترض أن ينعقد هذا الأسبوع في بروكسل، كان سيشكل اختبارا لاقتراح الثلاثي الأوروبي يطرح تزامنا مع عودة إيران إلى الامتثال مقابل منافع اقتصادية. لكن ليس من الواضح حتى الآن إن كانت واشنطن ستقدم على رفع العقوبات قبل أن تلتزم إيران.