اعتبارا من مطلع هذا العام, وقبل أن تدخل الحرب في اليمن عامها السادس في مارس الماضي، كانت المملكة العربية السعودية عقدت العزم على تفعيل قناتها السرية الخاصة بالتفاوض مع قيادات الجماعة الحوثية في العاصمة العمانية « مسقط ». وأوكلت الملف اليمني ورئاسة فريق التفاوض السعودي مع الجانب الحوثي لنائب وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان. وكان واضحا أن المفاوضات هذه المرة تتسم برغبة قوية، وقدر كبير من جدية المسعى السعودي لإيجاد مخرج من “المستنقع اليمني” ومن حرب لا تلوح لها نهاية.
لم يكُ ما يدور في “مسقط” بخافٍ على صقور الحوثيين المرتبطين مباشرة وهيكلياً بالحرس الثوري الإيراني، والمتربصين بعناصر الاتجاه الذي يميل إلى التفاوض مع السعودية باستنفارٍٍ قتالي متحفز لتخوين واغتيال وتصفية كل من يصرح بتغليب خيار التسوية مع السعودية: “العدو”.
والشاهد على ذلك أنه حينما دب النشاط في أوصال القناة التفاوضية السرية تصاعدت عمليات إطلاق الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة وتميّزت، على نحو غير مسبوق، بنوعية ودقة وخطورة عالية باستهدافها للمنشآت النفطية والحيوية الكبرى وذات الصلة والتأثير المباشر على الاقتصاد العالمي.
“اللاعب الحر” في صنعاء:
فيما تمكنت إدارة ترامب من ألقضاء على الرجل القوي الثاني في إيران بعد المرشد الأعلى علي خامئني، في 3 يناير ٢٠٢٠، بضربة خاطفة في بغداد، فقد أخفقت في ضربتها التي استهدفت الرجل الثاني القوي بعد قاسم سليماني في مسرح العمليات الخارجية وهو قائد الحرس ألثوري في اليمن عبد الرضا شهلائي ولتنجح “عملية قطع ألرأس” تماما. كما لم تعلن واشنطن عن فشل تلك العملية ألتي أرادتها أن تكون متزامنة ومكملة للدور الذي أحدثته عمليتها في بغداد. وقد تأخر إعلانها عن فشل اغتيال شهلائي إلى 15 يناير. وتكشف أنه في نفس ذلك اليوم تمكنت غارات الطيران الأمريكي المسير من قتل الضابط في الحرس الثوري الإيراني مصطفى محمد ميرزائي (38عاما) وقد أعترف الحرس الثوري حينها لأول مرة بأن الضابط ميرزائي قُتِل في “دولة تابعة لمحور المقاومة” يوم الخميس 3 يناير في ضواحي صنعاء.
لقد كان سليماني شديد الاهتمام بالحوثيين تسليحا وتدريبا وتخطيطا وإشرافا على معاركهم وهو الذي أشرف على انقلابهم في سبتمبر 2014 وعلى تزويدهم بأسلحة نوعية وخبراء من الحرس ألثوري و”حزب الله”، وأشرف على تدريب النخبة الصلبة وبالأحرى « القيادة الحسينية الحوثية » التي تلقت تدريباتها وتأدلجت في مدارس وأكاديميات الحرس الثوري، وعلى كيفية إدارة المواجهة مع « التحالف العربي” وعلى تأهيل القوات المتخصصة بالصواريخ الأكثر دقة. ولذلك لم يكن غريبا أن تخرج تظاهرات حاشدة في صنعاء ترفع صور قائد فيلق القدس بعد مصرعه، وأن تزين بنادق المليشيات الحوثية بصور قاسم سليماني، وأن ينعيه عبد الملك الحوثي بخطابٍ قال فيه أنه «شهيد الأمة الإسلامية كلها، وقائد محور المقاومة »، مؤكدا المضي على دربه.
وكانت وكالة” رويترز” كشفت في تحقيق صحفي عن سليماني، بعد اغتياله، أن إيران زادت في دورها بالصراع في اليمن حيث كثّفت إمدادات السلاح وغيرها من أشكال الدعم بما يضاهي نفس الإستراتيجية التي تنتهجها مع حليفها “حزب الله” في لبنان.
وأورد التحقيق أن”قاسم سليماني كان يشدد في اجتماعاته مع كبار المسؤولين في الحرس الثوري على « سُبُل تمكين الحوثيين » وقال: « اليمن المنطقة التي تدور فيها الحرب بالوكالة الحقيقية، وكسب المعركة في اليمن سيساعد على تحديد ميزان القوى في الشرق الأوسط”.
في مراسم عزاء سليماني في مدينة كاشان قال المستشار الإعلامي للحرس الثوري: « بشهادة قاسم سليماني قد تهيأت الظروف لإخراج امريكا وإسرائيل من المنطقة.. وأن اليمن التي يوجد فيها أكثر جنود إمام الزمان في حالة استعداد » ـ وكالة أنباء رسا 9 يناير.
ولما كان سليماني يولي اهتماما خاصا بالملف اليمني فقد كان وراء تكليف ذراعه الأيمن عبد الرضا شهلائي في إدارة هذا الملف من العام 2015.
التحق شهلائي بالحرس الثوري في نفس عام التحاق سليماني، 1980. وكلاهما شاركا في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وثالثهما “السفير” الإيراني الحالي بصنعاء « حسن إيرلو » الذي “تم تهريبه إلى صنعاء بطريقة عُدّت أكبر فضيحة دبلوماسية، أي ضمن عدد من الجرحى اليمنيين الذين كانوا قد أعيدوا إلى بلادهم مقابل أمريكيين كانوا اعتقلوا في السجون الحوثية ” ـ الشرق الأوسط 3 ديسمبر صالح القلاب.
ولد شهلائي في مدينة كرمنشاه 1957. ومنذ التحاقه بالحرس الثوري حتى نال رتبة فريق أول، وقبل أن يكلف بإدارة عمليات الحرس الثوري من صنعاء، كان يتنقل من أفغانستان إلى العراق ومن سوريا إلى اليمن كـ« لاعب حر » ـ حسب مانشيت عريض لموقع شفاف الشرق الأوسط. وهو مصنف كإرهابي خطير من قبل واشنطن. وكان “شفاف” قد نقل عن “رويترز” في 4 فبراير 2020 أنه إثناء إعلان الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن إسقاط الطائرة الأوكرانية، إخبارا مهمة أخرى ضاعت بين أخبار الطائرة الأوكرانية. فقد قال اثنان من المسؤولين الأمريكيين في الوكالة أنه، في نفس ليلة استهداف قائد فيلق القدس الإيراني بطائرة دون طيار، تم استهداف قائد آخر في فيلق القدس في هجوم أخر في اليمن هو شهلائي، وأن القائد نجا من الهجوم.
وقد اتهمته الإدارة الأمريكية بقيادة محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن ـ سابقا والوزير لاحقا ـ عادل الجبير في مطعم إيطالي. إذ كان من المقرر أن تنفذ العملية من خلال استئجار خدمات قتلة مأجورين في المكسيك بقيمة 1,5 مليون دولار. والمشتبه بهما هما منصور ارباب سير وهو تاجر سيارات إيراني يحمل الجنسية الأمريكية، وقد حكم عليه بالسجن 25 عاما، وعلي غلام سكوري أحد عناصر فيلق القدس.
في 4 ديسمبر من عام 2019 كشفت الإدارة الأمريكية عن “وجود قيادي كبير في الحرس الثوري الإيراني في اليمن يدير معارك الحوثيين”.
وفي 6 ديسمبر 2019 قال برايان هوك المبعوث الأمريكي الخاص بإيران في مؤتمر صحفي عقد في واشنطن أن عبد الرضا شهلائي هو قائد رفيع المستوى في الحرس الثوري ومقره الحالي في صنعاء, مشيرا الى أنه يستخدم عدة أسماء: عبدالرضا شهلائي، الحاج يوسف، ويوسف أبو الكرخ”.
وقد رصدت الخارجية الأمريكية مكافأة قدرها 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه. والمكافأة عبارة عن جزء من “برنامج المكافآت من أجل تحقيق العدالة” التابع للولايات المتحدة.
في وقت لاحق كشفت الخارجية الأمريكية بأن شهلائي خطط للعديد من الاغتيالات، وقدم أسلحة ومتفجرات لعدة جماعات متطرفة وعنيفة فضلا عن تخطيطه للهجوم الذي وقع في عشرين يناير 2007 وأسفر عن مقتل 5 جنود أمريكيين وجرح 3 آخرين.
وفي عام 2008 أعلنت الخزانة الأمريكية أن شهلائي يهدد سلم “واستقرار العراق”.
الواقع أن شهلائي هو سليماني اليمن، وهو من الحراس الكبار لحلم “تصدير الثورة”. وقد شغل موقع نائب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري فيلق المهام الخارجية المتخصصة في الحرب غير التقليدية، يمارس نشاطه من صنعاء متحكما بإيقاع المليشيات الحوثية وفقا لما تراه طهران من رفع للتصعيد أو خفضه.
إستراتيجية التصعيد:
بعد مقتل سليماني، تعزز وتوطد التقارب بين الإيرانيين والحوثيين، وتكثفت الاتصالات واللقاءات باتجاه استخلاص الصيغة النهائية للتحالف الإستراتيجي بين الطرفين. واتجهت طهران لإبرام هذا العقد بطريقة رسمية على غرار تحالفها مع “حزب الله” في لبنان، وضاعفت من وجودها في اليمن ومن إضفاء الطابع الرسمي على علاقتها بالحوثيين. وكانت عملية تبادل السفراء مدروسة وقد سارعت إليها إيران في الوقت الذي ترددت أخبار عن تقدم في المفاوضات بين الحوثيين والسعوديين. وبتلك الخطوة، بدت وكأنها أول من يعترف بسلطة الجماعة كسلطة شرعية على صنعاء. وقد سبق ذلك قبولها لأوراق اعتماد الحوثي إبراهيم الديلمي كسفير لصنعاء في طهران، وقيام الخارجية الإيرانية بالتنسيق والترتيب لعقد لقاءات بين قيادات حوثية وسفراء دول غربية في طهران. وتركيز قيادة للحرس الثوري بصنعاء، ولقاء علي خامئني بوفد الحوثيين وهو لقاء يحمل رمزية كبيرة لأنه من النادر أن يلتقي “إمام الزمان” بمسؤولين من أدواته في المنطقة.
ويذكر أنه في اغسطس 2019 زار وفد من “أنصار الله” طهران والتقى بوزير الخارجية محمد جواد ظريف ثم بالمرشد الأعلى وقام بمبايعته. وفي خبر عن الموقع الرسمي للمرشد الإيراني ورد أن “وفد جماعة أنصار الله التقى المرشد الأعلى حاملين رسالة وسلاما من زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، وأنهم يرون في ولايته امتدادا لولاية النبي عليه السلام وولاية علي بن أبي طالب”.
أن وجود قائد من الحرس الثوري بحجم شهلائي في صنعاء يؤشر على إصرار إيراني لإشراف ميداني مباشر وقوي على التوجه الجامح نحو إرساء النفوذ الإيراني في اليمن، بالنظر إلى أهمية هذا البلد في المنظور الإيراني لوقوعه على خطوط الملاحة البحرية في البحرين العربي والأحمر وإشرافه على مضيق باب المندب وقربه من المنشآت الحيوية في السعودية، وتكريسه منصة لتهديد وابتزاز وقصف أي أهداف في السعودية أو غيرها من دول الجوار.
لقد رشح من المفاوضات السعودية ـ الحوثية أن المملكة كانت تطلب هدنة طويلة الأمد على الحدود.
وقبل المفاوضات وخلالها كانت السعودية تتطلع وتطمع, ومعها كل من لندن وواشنطن، إلى إغواء وإغراء الحوثيين بفك الارتباط مع طهران. إلا أن الأخيرة كانت تتابع مجريات المباحثات عن كثب وبعين الصقر. وجاءت التحركات الإيرانية التصعيدية لتردّ وتسدّ باب التطلعات ولأطماع، وتقطع بأن الحوثيين يتحركون ـ غالبا ـ وفقا لمتطلبات المصالح الإيرانية، وأنهم جماعة ملتزمة بإستراتيجية مرشد الثورة الإسلامية، وأن الإشراف والتمويل والبناء الأيدلوجي والعسكري لهذه الجماعة شديد الارتباط بالهيكل العام للحرس الثوري.
ومؤخرا تحدث قائد فيلق القدس الجديد بالحرس الثوري إسماعيل قآءاني عن صواريخ لدى “أنصار الله” يصل مداها إلى أكثر من 400 كم وأن إيران ستستمر في دعمهم. وبعد 3 يناير 2020، ارتفعت أصوات في مجلس النواب الإيراني تطالب بـ »رفع القدرات العسكرية للحوثيين والاستفادة من باب المندب”.
نعم من حق السعودية أن تبحث عن مخرج أو حل بطريقتها على خلفية تصدّع “تحالف دعم الشرعية” وانقلاب بعض أطرافه عليها بالمكشوف أو بالمكتوم ومن وراء ستار.
وفي ظل “حكومة شرعية” مخترقة وفاسدة ومتحللة، فإن الطريق إلى المخرج المنشود سعوديا مزروع بألغام ومدافع وصواريخ الصقور والمنتفعين والمستثمرين في الحرب من “أنصار الله” و”الحرس الثوري” وغيرهم، ما يستدعي إعادة تعريف وموضعة للكثير من الأطراف والأدوار.