الصورة: فريق « هليوغراف » عثماني أثناء الهجوم على « هوج » (قرب غزّة) سنة ١٩١٧، أثناء حملة سيناء وفلسطين العسكرية في الحرب العالمية الأولى
(نشر “الشفاف” الموضوع التالي، بالإنكليزية، في ٢ يوليو ٢٠١٥، نقلاً عن “حرّيت” التركية. وقد ارتأينا ترجمته إلى العربية اليوم (في ٢٢ ديسمبر ٢٠١٧) بسبب السجال الدائر بين وزير خارجية دولة الإمارات، عبدالله بن زايد، وا”لديكتاتور التركي الغاضب”، الذي لا يعرف تاريخ بلاده، وتاريخ العرب، جيداً!
ما يقوله المؤرخون الأتراك الذين عايشوا الفترة التي تنازعَ حولها وزير خارجية الإمارات ورئيس “الإمبراطورية” التركية رجب طيب إردوغان لا يصبّ في مصلحة الديكتاتور الغاضب. مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، الذين تأثّر بهم الرئيس التركي، فإن التاريخ العثماني الذي يحبّ الإستشهاد به هو “تاريخ وهمي” بمعظمه! ما يقوله المؤرخون “العثمانيون” يدحض مزاعم الرئس إردوغان.— )
بيار عقل
*
فخري باشا، آخر حاكم عثماني للمدينة المنوّرة، في ١٩١٦
المصدر « حرية » في ٢ يوليو ٢٠١٥
الكاتب: وليام أرمسترونغ
عنوان المقال بالإنكليزية: تركيا في « مستنقع » الشرق الأوسط
في خطاب ألقاه في السنة الماضية، ندّد رئيس حكومة تركيا (آنذاك)، رجب طيّب إردوغان، بأحزاب المعارضة التي تستخدم تعبير « المستنقع » للحديث عن الشرق الأوسط.
« بالنسبة لأجدادنا قبل ١٠٠ سنة، أياً كان حال “إستانبول”، فإن “المدينة” كانت مثلها؛ وأياً كان حال “إزمير”، فإن “بيروت” كانت مثلها؛ وأياً كانت أحوال “أنقره”، فإن “حلب” كانت مثلها… ولكن حكومات لاحقة في تركيا أدارت ظهرها للمنطقة وأطلقت عليها تسمية « المستنقع »، قال إردوغان، قبل أن ينصح شبّان تركيا بدراسة تاريخ أمّتهم.
وأوصى إردوغان بشكل خاص، في الخطاب نفسه، بدراسة كتاب « جبل الزيتون » الذي قال أن الروائي التركي « يعقوب قدري قره عثمان أوغلو» كَتبهُ حول الحملات العسكرية التي شنّتها الإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى.
‘كتاب « جبل الزيتون » لمؤلّفه فالح رفقي أطاي
وحتى لو كان الأمر مُحرِجاً، فقد أخطأ إردوغان بإسم المؤلف! فكتاب « جبل الزيتون » لم يكتبه « يعقوب قدري قره عثمان أوغلو»، بل كتبه فالح رفقي أطاي“، الذي أصبح، لاحقاً، صحفياً وسياسياً تركياً معروفاً. لكن، حتى لو وضعنا خطأه في إسم مؤلف الكتاب جانباً، فإن توصية إردوغان كانت مضللة لأسباب أخرى. فشكوك « فالح رفقي أطاي » حول دور الإمبراطورية العثمانية تطغى على روايته للأحداث التي عاصرها. ومع أنه لم يستخدم تعبير « المستنقع »، فإن ذلك هو الإنطباع الذي يخرج به قارئ كتابه. وإذا ما اتّبع شبان تركيا الحاليون نصيحة إردوغان، فسيخرجون بانطباع معاكس لما كان يريده في خطابه!
« أحمد جمال باشا »، القائد العام للجيش العثماني الرابع، يستمع إلى تحيات « شيخ عربي » في تركيا أثناءالحرب العالمية الأولى
كان « فالح رفقي أطاي » في سن الـ٢٠ حينما اندلعت الحرب العالمية الأولى. وكان قد أمضى بضع سنوات كمراسل لصحف ترتبط بشخصيات عسكرية. وفي سنة ١٩١٤، تم تعيينه للعمل مع وزير البحرية « جمال باشا »، الذي كان قائداً لـ « الجيش الرابع » المتمركز في القدس. وكان « جمال باشا » يمثّل ثُلث المجلس العسكري الحاكم، أي مجلس « الثلاثة باشوات » الذي كان يدير الإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وكانت مهمّته هي الدفاع عن المقاطعات العربية للإمبراطورية العثمانية. وكان على جمال باشا أن يُعيد المنطقة العربية إلى الحظيرة العثمانية، وقد اكتسب سمعة مخيفة بين العرب بسبب مكافحته للإنفصاليين بدون هوادة.
“القدس” وجوارها “بلاد أجنبية” نتجوّل فيها كالسيّاح!
إن كتاب « جبل الزيتون » هو، بالدرجة الأولى، مذكرات « فالح رفقي » عن عمله مع « جمال باشا » ». وفي حين كان « جمال باشا » واثقاً بقدرته على « عَثمَنَة » سوريا وفلسطين، فإن « فالح رفقي » يقول أنه كان، دائماً، مُدرِكاً لعبثية ذلك الطموح. وهو يصوّر « القدس » والمناطق المحيطة بها كبلاد أجنبية يتعذّر فيها على الإمبراطورية العثمانية أن تحوز على ولاء سكّانها.
وهو يكتب (في « جبل الزيتون »): « مثلما أن فلورنسة لم تكن مُلكنا، فإن « القدس » لم تكن لنا. وكنّا نتجوّل في شوارعها كسوّاح ». ويضيف: « في سوريا، وفلسطين، والحجاز، فإذا سألت أحداً من الناس « هل أنت تركي؟ »، فإنه سيجيبك « أرجو ألا تردّد هذا الكلام »!
وفي فصل بعنوان « إمبراطوريتنا »، يصف العثمانيين بأنهم « حرس بلا أجر » للمنطقة. وهو يقارن واجبات الإمبراطورية بواجبات الشيخ المسلم المحلّي الذي كان يحتفظ بمفاتيح كنيسة القيامة. ويقول أن « التجارة، والثقافة، والزراعة، والصناعة، وأعمال البناء، كانت كلها في أيدي العرب أو أبناء دول أخرى ». ويضيف: « وحدها « الجندرمة » كانت لنا. ولكن حتى تلك القوة لم تكن « جندرمة » حقيقية، بل كانت أشبه بـ « جندرمة »!
وفي حين يستخفّ « فالح رفقي » بمكانة العثمانيين في المنطقة، فإنه نادراً ما يتساءل حول أسباب الوجود الفرنسي أو البريطاني فيها!
جمال باشا مع رئيس أركانه « علي فؤاد إردين » عشية الهجوم على قناة السويس
إن « فالح رفقي »، المعروف بتوجّهه القومي، يرفض الحدادَ على الإنسحاب العثماني من المنطقة لأنه « بلا فائدة »، قائلاً أنه ليس « شعوراً واقعياً، بل عاطفة تاريخية ». بل، وينمّ كتابه عن احترام حسود للقوميين العرب الشبّان الطموحين.
ويصف « فالح رفقي » مشهد الإعدام العلني لمجموعة منهم في بيروت قائلاً: « كانوا بمعظمهم شباناً قوميين. وقد تقدموا نحو المشانق بشجاعة، وهم يُنشدون النشيد القومي العربي »!
وقبل قليل من انتهاء الحرب، قام « فالح رفقي » بجولة في أوروبا مع « جمال باشا »، واكتشف آنذاك أن وضع الإمبراطورية العثمانية وحليفها الألماني كان ميؤوساً. وأنها كانت قد خسرت الحرب. وهو يكتب: « في بروكسيل، قمنا بمقارنة ضيق الموقف الألماني بالوفرة والإرتياح اللذين يعيشهما الحلفاء… وعند عودتي إلى دمشق، كنت قد تعلّمت أشياء كثيرة، وامتلكت خبرات جديدة بالأسلحة، وشهدت العديد من التطورات العسكرة. ولكنني، بالمقابل، كنت قد فقدت آخر قطرات الأمل بالإنتصار. كنا نغرق ».
بعد الإنهيار النهائي للإمبراطورية العثمانية، أصبح « فالح رفقي » نائباً في برلمان الجمهورية التركية الجديدة. ويعرفه طلاب المدارس الثانوية في تركيا بفضل كُتُبِه عن مؤسّس الجمهورية، مصطفى كمال « اتاتورك ».
وفي يومنا، مع رغبة أنقره في استئناف دورها العسكري في منطقة مُنهارة، ومع استمرار أحزاب المعارضة في التحذير من « المستنقع »، فإن الرئيس إردوغان على حق: إن كتاب « جبل الزيتون » يستحق القراءة.
نُشِر الموضوع أعلاه على “الشفاف” لأول مرة في