في التاسعة صباحاً من كل يوم كنت دوماً في الطريق.
أستقل أول تاكسي أراه من ساحة باب توما في قلب دمشق، وأتوجه إلى موعدي في الصباح مع شخصية سورية من شخصيات المجتمع المدني ، الحقوقي، أو الثقافية.
كل يوم.
وفي التاسعة صباحاً من كل يوم كان صوته يصدح من مذياع التاكسي.
أسمع صوته من موقعي.
وأسمعه أيضا يجلجل من نوافذ سيارات مارة بجانبنا.
أسمعه يتحدث، وأجفل.
أتمعن في حديثه، وأرقب سائق التاكسي، أياَ كان، وهو يتابع الكلمات وهي تتلاحق من حنجرة الصوت الصادح، يمتصها، يتشربها، ويهز رأسه بين الحين والآخر مؤيداً.
وفي كل مرة، عند لحظة خروجي من التاكسي كنت أسأل السائق لمزيد من التأكد: من الرجل؟
يرد مندهشاً وبثقة: شيخنا النابلسي.
شيخنا النابلسي؟
شيخنا النابلسي ليس كشيخنا الزنداني ذي الفكر السلفي.
ليس فعلاًَ، فالزنداني جمع بين فكر الإخوان المسلمين ولقحه بالفكر الوهابي عند تحوله إلى السعودية، ليخرج لنا بوليد أسمه “الجهاد”. وهو “يجاهد” إلى يومنا هذا إذا لم تلاحظوا، وليت أمننا اليمني يوجه أنظاره بعيداً عن المتقاعدين قليلاً ويركز أكثر على “جهاد شيخنا الديني”، يمارسه من خلال جامعة الإيمان، التي كما تعلمون تدور حولها ألف علامة استفهام عن نوعية الفكر الذي تغسل به أدمغة طلابها.
شيخنا النابلسي لا أعرف بعد موقفه من العنف، لكننا نعرف أن شيخنا الزنداني لم يخرج علينا إلى اليوم بفتوى تدين بصراحة الأعمال الإرهابية التي يقوم بها أسامة بين لادن.
سلمان العودة فعلها، وهو صامت. والصمت، كما تعرفون، علامة الرضا. نقولها مبتسمين عند حديثنا عن العذراء حين زواجها، وهي وجلة المسكينة، وأقولها عابسة حين حديثي عن شيخ يقول إنه ينطق باسم الله، كأنه الله، ويصمت بعناد عن نبذ العنف والكراهية، تنزه الله سبحانه عما يقول.
لا. شيخنا النابلسي ليس كالزنداني.
لكنه كالزنداني داعية.
يظن هو الآخر أنه يدعو إلى الله.
وكنت أظن الله هو الحب و الخير و الجمال.
يا رحمن، لم لا نراك في أصواتهم؟
وفي الواقع لا أرى داعياً لمهمة الداعية. لكنها أصبحت اليوم من مستلزمات “الواقع العربي المتخلف”، فهي وثقافة الاستهلاك رديفان. يخرجون علينا من تحت الأرض، من وراء السحاب، ومن كل شجرة، وكل يدعو بطريقته. ويقول إنه يدعو إلى الله.
لكننا إذا ما تمعنا في خطابهم نجدهم لا يحدثوننا عن الله. انتبهوا أيها السادة. هم لا يحدثوننا عن الله. بل يحدثوننا عن نظام اجتماعي هم وضعوا أسسه، ثم يصرون علينا بالقول، “لكن الله هو الذي يقول”.
شيخنا النابلسي واحد من هؤلاء، لأنه يتحدث عن نظام اجتماعي، ولا يزيد عليه كما يفعل شيخنا الزنداني بنظام سياسي.
فلو تحدث عن نظام سياسي ما سمحت له السلطات السورية بالحديث من أساسه، أليس كذلك؟
لا. شيخنا النابلسي يحدثنا عن نظام اجتماعي محدد، مهووس بجسد المرأة، ورؤية للعالم تتسق مع فكر الإقصاء والكراهية، ودعوة إلى الفقراء بالقبول بواقعهم المرير.
ثلاث عناصر تحدد ملامح الفكر الذي يدعو إليه: المرأة، الآخر، والرضوخ للأمر الواقع.
المرأة هنا ليست كياناً إنسانيا مساوياً للرجل. ليست شخصاً مستقلاً قادراً على اتخاذ قراراتها بنفسها دون حاجة إلى الوصاية. المرأة ليست إنساناً.
بل تابع. تابع تجب الوصاية عليه. تابع يجب عليه الخضوع وتقبل الأوامر.
وتابع تجب تغطيته. والذكر بالطبع يتولى مهمة التغطية، تماماً كما يتولى في النهاية مهمة تجريدها من الغطاء.
لاحظوا مضامين كل الخطابات الدعوية التي خرجت علينا منذ السبعينات، وستجدونها دائماً تركز على المرأة. مهووسة بالمرأة. كأنها لا تحلم ليل نهار إلا بالمرأة. مسكينة هذه المرأة.
صوت شيخنا الصادح كان يصرخ في أحد خطبه “هؤلاء الفتيات اللاتي يمشين في الشوارع كاسيات عاريات، أليس لهن أخوه، أزواج، أليس هؤلاء مسئولين عنهن”!
وسائق التاكسي يهز رأسه مؤيداً.
ثم الأخر. العنصر الثاني في خطاب الشيخ.
والأخر هنا تحديداً هي أوروبا.
أدهشني شيخنا وهو يعيب في أحد خطبه على من يعود من أوروبا ويمدح فيها وفي نظامها، ويصرخ “ألم يروا فيها الفساد والزنا واللواط وتبادل الزوجات وزنا المحارم “!
في الواقع بهت وأنا أستمع إلى هذا الحديث.
الفساد موجود في كل مكان، لكني أظنه معششاً في نفوسنا، وأدمغتنا، وأنظمتنا العربية أكثر. هل سمعتم من أمتدح الرشوة وأعتبرها “شطارة” في قنواتنا الفضائية؟ أو تظنوني أتجنى هنا؟ ثم هل رأيتم من يرث البلاد ومن فيها هو وأسرته وحاشيته وبطانته؟ أم أني أكذب فيما أصف؟
لكن لا. شيخنا يحدثنا عن فساد من نوع أخر. فالفساد الأول من مستلزمات بقاءه في المذياع. أما الثاني فهو ما يضيق به.
لكننا نعرف أن الزنا والمثلية الجنسية (اعذروني فتسمية اللواط المحايدة هي المثلية الجنسية) وزنا المحارم، يا لحرقة الكبد، موجودة هنا كما أنها موجودة هناك.
كلنا يدري بذلك، ويصمت عنه. وفي حالة زنا المحارم فإن صمتنا عنها جريمة.
هل أفتري فيما أقول؟
أما مسألة تبادل الزوجات، فمع احترامي الشديد لمعلومات شيخنا الفاضل، فلا أظن أن الغالبية العظمي من الشعوب الأوروبية، وهي متنوعة جداً على فكرة، تُقبل على هذه المسألة.
كأننا شعوب خارج نطاق التاريخ!
شيخنا يحدثنا ضمن نطاق ثنائية لا توجد إلا في ذهنه: “نحن”، و”نحن” هنا شعوب طاهرة خالية من العيوب، أو على الأقل تسعى لفعل ذلك جاهدة. والمسكينة أنقطع نفسها وهي تفعل ذلك.
و”هم”. و”هم” هنا هي أوروبا، هي الغرب، وهي أمريكا. وهؤلاء، ضمن هذا المنطق، يسود لديهم الفساد الأخلاقي، ينخر فيهم. ولذا يتوجب علينا أن “نحمي أنفسنا منهم”.
و”هم”، في الواقع، مثلنا “نحن”.
مثلنا، بشر.
مثلنا! لا يزيدون علينا إلا بنظام يحمي حق الإنسان فيه. نظام وضعي ثبت لكل من عاش تحت ظله أنه الأفضل إلى يومنا هذا. لم يتوصل الإنسان إلى نظام أفضل منه.
هذا لا يعني أن الأخطاء لا تحدث.
هذا لا يعني أن الظلم لا يحدث.
وهذا لا يعني أن اليمين المتطرف في البلدان الأوروبية لا يسعى هو الأخر إلى تقسيم العالم إلى معسكرين، “نحن” و”الأجانب”.
لكن القانون هو الحكم بيننا.
القانون هو حامينا.
وهو سيحميني تماماً كما سيحمي غيري. منطق الخيار والفقوس الذي نعرفه ونلتسع به مراراً في مجتمعاتنا العربية غريب في دولة يحكمها القانون.
ليت شيخنا يدرك ما يقول.
أما الثالثة، فهي موجعة. لأنك إذا كنت تدعو إلى الله حقاً، فعيب عليك أن تدعو إلى الظلم.
ودعوته كانت إلى قبول الظلم.
خطابه كان موجهاً إلى الفقراء.
إليهم تحديداً.
يقول لهم، لا تحسدوا الغني على غناه. واعتبروا أن فقركم نعمة. لأن “الغني ستكون مساءلته أصعب يوم القيامة”. ما أجمله من عزاء! الغني سيكون موقفه صعباً يوم القيامة!أما الفقير فهو بالتأكيد سيكون سعيداً جداً يوم القيامة! وإلى أن يحين موعد يوم القيامة، يكون الفقير قد شبع فقراً.
أي منطق هذا الذي يتحدث به؟
لم لا يقول له “لا تقبل بوضعك، وغيره”. لم لا يقول له “خلقك الرحمن حراً، فأعمل وكن شيئاً”.
لم لا يقول له “بإرادتك، بعملك، وتعليمك أولادك، ستكون قادراً على تغيير وضعك”.
لن يقول ذلك، والدهر بيننا.
أتدرون لماذا؟
لأنه خطاب إسلامي مؤسسي، يدعم السلطة الحاكمة.
ولأنه كما السلطة الحاكمة، كما نحن، يدري أنه حتى لو جاهد الفقير وعمل ودرس وسعى لتغيير وضعه، فإنه في ظل الواقع العربي الذي يعيشه لن يواجه سوى جداراً من الحديد الصلب، سيدمي أظافره، ويعيده على أدراجه خائبا. بكلمات أخرى، سواء عمل أو لم يعمل، سيبقى حاله كما هو.
فالعربي في بلداننا العربية (باستثناء بعض دول خليجية) يحتاج إلى مائة وأربعين عاماً كي يضاعف من دخله. الآسيوي يفعل ذلك في عشر سنوات. هذا ما توصل إليه تقرير التنمية البشرية العربي لعام 2002.
ولأن الصوت الصادح من المذياع، كما السلطة الحاكمة، كما نحن، يعرف ذلك جيداً، كان من الحكمة أن يعزي الفقير بنعمة الفقر، لأن الغني، يا للمسكين، سيعاني أكثر يوم القيامة. عزاء يغطي على عورة النظام القائم.
إذن، هي ثلاث عناصر تحدد مضمون خطاب الدعوة القائم. ورابعهم فكر العنف والجهاد.
يجتمعون معاً ليرسموا ملامح واقع التخلف الفكري الذي نعيشه.
واقع يجعل من المقبول أن يصدح مثل هذا الصوت كل يوم في التاسعة صباحاً من المذياع في شوارع دمشق. تماما كما تصرخ به أصوات تضج بها الأشرطة والمساجد في اليمن ومصر والكويت……
تصرخ، لتتلقى الكلمات نفوسٌ ملأ اليأس قلوبها، فتَعبُ منها عباً، حتى تصدق.
وتقول إن الشيخ ينطق بقول الله.
والشيخ يرفع قوله في وجه من يجادله، يقول له أنا الحق، فحذار من التفكير.
والله، وهم أدرى، لا علاقة له بما يقولون.
ليتهم يخجلون.
elham.thomas@hispeed.ch