عن “كوبا” و”فنزويلا” وأشياء أخرى

0

مريلاند/ الولايات المتحدة الأمريكية 

تجتاح “كوبا” حاليا تظاهرات عنيفة لنقص الغذاء وسائر المواد التموينية، وارتفاع الأسعار، واستشراء الإصابات بفيروس كورونا. وتعد تلك التظاهرات التي اجتاحت العاصمة هافانا، الأكبر عبر أعوام طويلة، حيث انتشرت في كل مكان على الجزيرة الواقعة نحو عشرين ميلا جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. ومن بعد صمت من الإدارة الأمريكية الحالية، والتي توصف كالأكثر يسارا من أي إدارة أمريكية سابقة – بما فيها إدارة أوباما التي جنحت كثيرا إلى اليسار – صرح البيت الأبيض أخيرا عن تأييده للشعب الكوبي في ثورته ضد النظام، وعن اعتزامه إرسال معونات عينية للمتضررين من نقص المواد الغذائية. ومن ناحيتها، أدانت الحكومة الكوبية الولايات المتحدة كداعم لتلك التظاهرات الشعبية.

 

ثم ننتقل الآن إلى دولة أخرى في أمريكا الجنوبية. هل تعلم -عزيزي القارئ- أن “فنزويلا” تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم بمقدار 296,600,000,000 برميل، أي (24,8%) من الاحتياطي العالمي، متقدمة على السعودية (22.1%)، وعلى كندا (13.29%)، وإيران (12.8%)؟ 

وهل تعلم أن 90% من مواطني فنزويلا يعيشون اليوم تحت خط الفقر؟ 

وهل تتخيل أن معظم أجورهم الآن بلا قيمة حقيقية بعد وصول معدل التضخم هناك إلى نحو عشرة ملايين بالمائة؟ 

لقد تحولت الدولة الأغنى في أمريكا الجنوبية، عبر سنوات من الفساد، والفشل الإداري، إلى مستنقع جوع واحتياج، وخلت أرفف المحال بها من البضائع الأساسية اللازمة للحياة اليومية، وتفشت فيها الأمراض لشح الدواء، ونمت معدلات الجريمة والهجرة الجماعية من أراضيها. 

ومع ذلك، ثار اليسار العالمي وانتفض، حتى الأمريكيون منهم، اعتراضًا على تأييد الرئيس “ترامب” قبل نحو عامين، للانتفاضة الشعبية التي قام بها مئات الآلاف من المواطنين في فنزويلا، والتي أعلن قائد المعارضة وزعيم السلطة التشريعية بفنزويلا وقتها، النائب الشاب “خوان جوايدو” بعدها تنصيب نفسه رئيسًا للبلاد.

ولكن بعدها مباشرة سارعت دول ديمقراطية أخرى إلى إعلان تأييدها للرئيس “جوايدو”، ومطالبة الرئيس “مادورو” بالرحيل، وعلى رأسها: برلمان الاتحاد الأوروبي، وكندا، وأستراليا، ومعظم دول أمريكا اللاتينية، عدا كوبا وبوليفيا ونيكاراجوا. وعلى الجانب الآخر، قادت روسيا والصين وإيران المعارضة الدولية ضد الانقلاب السياسي، فسارعت إلى تأييد الرئيس “مادورو”.

في داخل الولايات المتحدة، وصف بعض الديمقراطيين، مثل النائبة “ألحان عمر” المنتخبة حديثًا نسبيا بالكونجرس، ما حدث بأنه “سعي من ترامب لجعل المعارضين اليمينيين في فنزويلا بالمقدمة”، معبرةً عن جهلها بالشأن السياسي هناك. في حين دعا البعض الآخر، من أمثال “ألكساندريا أوكاسيو كورتيز” و”رو كانا”، الولايات المتحدة لأن “تسعى لإعمال التفاوض بين الطرفين بدلًا من الانحياز التام لزعيم المعارضة“.

السؤال هنا: هل جاء تأييد البيت الأبيض للمظاهرات في كوبا الآن، وبالمثل، هل اتخذت أمريكا القرار السليم بشأن فنزويلا، أم تسرع “بايدن” اليوم، كما فعل “ترامب” قبل سنوات، وبادر بتدخل قوة عظمى في شأن داخلي لدولة تقع في قارة أمريكا الجنوبية على بعد نحو ثلاثة آلاف ميل جنوب الولايات المتحدة الأمريكية؟

كما أتساءل هنا بصورة أشمل عن بقية الدول التي اتخذت نظام الاقتصاد الاشتراكي، ولا أقول الشيوعي، ونجحت في أن تزدهر الحياة ببلدانها، فصارت نُموذجًا لبقية شعوب العالم، وباتت تستقطب حكومات الدول للحذو حذوها، هل اتخذت القرار السليم بشأن اختيارها الأول؟ 

دعنا أولًا نتفق -عزيزي القارئ- على أنه لا وجود لبلد شيوعي حقيقي من الناحية النظرية؛ لأن ذلك يستلزم غياب الحكومة كمدير لشئون البلاد. إذاً، دعونا نبحث عن الدول الاشتراكية الأصيلة، ونتعرف على مستوى أدائها لنقيِّم نجاحها من عدمه. ولعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو المارد السوفيتي زعيم الاشتراكية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ما لبث أن شهدنا انهياره المدوِّي بعد انتهاء الحرب الباردة في عام 1989، إلى أن تفكك نهائيًّا في ديسمبر 1991. 

والمثال التالي في الأهمية بالطبع هو الوحش الصيني، وبعده بمراحل تأتي دول مثل: كوبا، وبوليفيا، وكوريا الشمالية. كما أن هناك دولًا اتّبعت مزيجًا من الاشتراكية، مع قدر كبير من الرأسمالية، عبر مناخ ديمقراطي حقيقي، مثل: دول شمال أوروبا كالنرويج، والسويد، وفنلندا. ولكن لو امتد هذا الخط على استقامته لوقعت دول مثل: إسبانيا، وألمانيا، وفرنسا، بل وإنجلترا، وكندا، وأستراليا، والولايات المتحدة، كدول رأسمالية تطبق النظام الاشتراكي في الرعاية الصحية، خاصة لغير القادرين، والمعاش، والإعانات الاجتماعية بأنواعها بدرجات متفاوتة. 

ولكن حتى النموذج الصيني الأنجح والأقرب إلى الاشتراكية الخالصة، نجد أن الرئيس “دينج شياو بنج” أدخل تعديلات اقتصادية سمحت للشركات الأجنبية الرأسمالية بالدخول والمشاركة في قطاعات الصناعة والتجارة والأعمال، بحيث صار الاقتصاد مزيجًا مثل الذي عددناه في بلدان كثيرة أخرى. 

إذاً، ليس من المستغرب أن نُفسر أمر انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في فنزويلا إذا اتخذت ذلك النموذج الاشتراكي القح سبيلًا لها. بل تفاقم الأمر هناك بعد تولي “هوجو تشافيز” في عام 1999 حين كان نصف السكان فقط يعيشون تحت خط الفقر، بينما يدر النفط 850 مليون دولار كل شهر. فقد قام “تشافيز” بإصلاحات اقتصادية اشتراكية مهمة، من أبرزها توزيع الأراضي على الفقراء بعد أن كانت في أيدي عدد قليل من المواطنين. ولكنه انصرف بعدها إلى دعم القوى الثورية في أمريكا الجنوبية أولًا، ثم مناهضة أمريكا في القارة الأمريكية الجنوبية، ثم حول العالم للتنديد بعلاقات أمريكا السياسية والاقتصادية بدول جوارها وحول العالم، أو خلال زيارته العلنية للنظام العراقي السابق، والنظام الليبي السابق، قبل أن يبدأ الأخير مصالحته مع الغرب. وعبَّر “تشافيز” بوضوح عن رغبته في تقليص اعتماده على الدولار، وتوسيع نطاق النفط الفنزويلي في بلدان، مثل إيران وسوريا، تمتلك نفس الأيديولوجيا المعادية للولايات المتحدة. وحدثت اضطرابات ضخمة في فنزويلا بسبب سياساته الاقتصادية المركزية، وزيادة الإنفاق الحكومي لصالح الطبقات المعدومة، وأضرت هذه السياسات، ليس بالأغنياء فقط، وإنما بالطبقة الوسطى التي وجد أبناؤها أنفسهم في الشارع بعد توقف نشاط العديد من الشركات الكبرى العاملة في صناعة النفط أو الخدمات المرتبطة بها. 

وأخيرًا رحل “تشافيز” إثر إصابته بمرض السرطان في مارس 2013. وفي أبريل 2013 تولى نائبه “نيكولاس مادورو” رئاسة فنزويلا. ولكن استمر تردي الوضع الاقتصادي بالبلاد، مما أدى إلى خروج مظاهرات يومية عام 2014 أدت إلى وقوع 43 قتيلًا بين المتظاهرين. واستمرت سلسلة الأزمات السياسية والاحتجاجات الشعبية ضد حكم “مادورو” حتى بلغت ذروتها في عام 2017 بمظاهرات يومية أوقعت 153 قتيلًا. وانتخبت “الجمعية التأسيسية لفنزويلا” في يوليو 2017، لكن غالبيتها كانت من مؤيدي “مادورو”. وفي انتخابات صورية في مايو 2018 فاز “مادورو” بالرئاسة مجددًا. ولكنه مثل “تشافيز” وُصف حكمه بالاستبدادي، مما أدى إلى تفاقم التدهور الاقتصادي، ووصلت الأمور إلى ذروتها في يناير 2019 حين أعلن رئيس المحكمة العليا في فنزويلا استمرار حكم “مادورو”، فنزل مئات الآلاف إلى الشوارع، في حين أعلن رئيس الجمعية الوطنية وزعيم المعارضة “خوان جوايدو” نفسه رئيسًا للبلاد. 

يتبادر إلى ذهني تساؤلان، أولهما: لماذا سارعت دول مثل روسيا والصين وإيران إلى تأييد “مادورو”؟ والثاني: ما الذي دفع اليسار إلى مهاجمة دعم الولايات المتحدة لجوايدو؟ 

من ناحية، لا تريد دول مثل روسيا والصين أن تفقد مليارات يدين بها النظام في فنزويلا لها. ومن ناحية أخرى، لا تبتغي أنظمة أوتوقراطية أو ثيوقراطية -مثل: كوبا، وتركيا، وإيران- أن تعاين نظامًا مثيلًا يتهاوى تحت تأثير شعبي فيكون عبرة ومثالًا لشعوبها. 

أما عن اليسار في أمريكا وحول العالم فلديهمسجل حافل بتدخلات أمنية مستترة من قبل المخابرات المركزية، أو بشكل علني من قِبل الحكومات الأمريكية في الماضي القريب والبعيد تهدف إلى زعزعة وإسقاط بل وتصفية قادة سياسيين من اليسار في شتى أرجاء القارة الأمريكية الجنوبية من بنما في أقصى الشمال إلى تشيلي والأرجنتين في أقصى الجنوب. 

أما هذه المرة فـ”جوايدو” يساري اشتراكي كذلك، فلا تنطبق مواصفاته مع “أوجستو بينوشيه” التشيلي مثلًا. 

وعلى أية حال فالأمر لم ينتهِ بعد، والمسألة الفنزويلية معقدة للغاية، وسوف تُظهر لنا الأيام المقبلة كيف ستنحل العقدة، ومن سيفوز بالكعكة في نهاية الأمر. 

ولكن.. ألا يذكرنا المشهد العبثي هذا بطريقة أو بأخرى بمشهد مشابه قريب لعيوننا ومشاعرنا وملازم لذاكرتنا الآنية؟ ألا تودّ أن تنطق معي لفظ “الربيع الـ …” يا عزيزي، وإن اختلفت بالطبع ساحة العرض، وتباينت أطراف اللعبة والقائمون عليها؟ 

الرواية هي الرواية، وإن جاءوا بطاقم مختلف من الممثلين، وغيَّروا المخرج، وحوَّروا في النص، لعل العمل يحظى بنجاح أفضل من العمل الأول الذي لم يُحقق الفائدة المرجوّة. 

Leave a Reply

0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
Share.

Discover more from Middle East Transparent

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading