يا لها من مباغتة!
لكن ماذا يعني كل هذا؟ هل يهرب منا كانديد هذا؟ هل أيقن أننا نبحث عنه، ونقتفي أثره؟
هل هي مصادفة أن يفر من أمامنا شهورًا، أو أيامًا، أو مجرد بضع ساعات، قبل أن ندركه؟
إنه على ما يبدو إلى الآن، سرّ آخر يضاف إلى معضلة عثورنا عليه. نعم، يلوح لي أننا ربما عثرنا على شخصية روائية، ألَّفها الفرنسي فولتير قبل أكثر من قرنين مضيا، قفزت من صفحات الكتاب، ثم عاشت وسطنا. ويبدو أنه شهدها وعايشها أشخاص من لحم ودم مثلنا، صادفناهم في تركيا أولًا، ثم في تايلاند، وقد جزموا فعلًا بلقائها، وبمعرفتهم الشخصية بها.
آه يا ربي! هذا هو الجنون بعينه!
كنت أتفكر متعجبًا؛ إذ لم أسعَ إلى خوض هذه الرحلة، إلا إرضاءً لاختبال أمير، ولأسَكِّن من شطحات أفكاره التي اعتدتها. ها هي الأفكار ذاتها التي طالما سخرت منها، تلاحق عقلي، وتداعب ذهني، وتسخر مني بدورها.
كم هي عجيبة حياتنا، كمثل القارب الذي تتقاذفه الأمواج، فنجد أنفسنا على وشك الغرق أحيانًا، في خضم عاصفة عاتية، ثم تسكن الرياح فجأة، فإذا بالمركب الذي كاد أن يتحطم قبل قليل، يرسو بنا عند شاطئ هادئ، تداعب أشجار نخيله نسمات لطيفة، وتترع به زقزقات عصافير متناغمة.
ولكن لماذا يبدو كانديد ذاك، وكأنه يفر من أمامنا؟
وكأنما قرأ أمير فكاري، إذ فوجئت به يصرخ في وجه زياد، بينما كنا ننتظر موعد إقلاع الطائرة المتجهة إلى كوالالمبور:
“انظر يا زياد، أنا لن أسمح لك بأن تكون السبب في فشل مهمتنا!”
بوغت زياد ـ مثلي ـ باحتدام أمير المفاجئ. ولمَّا لم يكن يدرك ما الذي كان يرمي إليه، صاح فيه بدوره قائلًا:
“ماذا بك يا رجل، أمجنون أنت؟””
وهنا هب أمير واقفًا، وفي لحظة واحدة كان يواجه زياد، ويدفع كتفيه بيديه يعنفه، وهو يستعد بكل ما أوتي من بأس لعراك ذاك العملاق، دفاعًا عن صحة عقله، بعد أن وسمه الرجل بالجنون. ولم تمض ثانية إلا وانتصب زياد أيضًا في مواجهته. وفي طرفة عين، وجدتني أقف أيضًا، وبخطوة حاسمة حشرتُ جسمي الوهن ما بينهما، لأعوق هبّة أمير غير المحمودة العاقبة. فزياد لا يعرف شيئًا عن مرض أمير ـ حتى وإن كان يبدو وقد تعافى منه في معظم الأوقات ـ ومن ثمّ، فهو لم يقصد وصمه بالجنون حرفيًّا كما ظن أمير. زد على ذلك أن زياد العملاق قادر على أن يحطمه تحطيمًا، إذا تصاعد الاحتدام وتحول فعلًا إلى اشتباك بالأيدي. ولمَّا كنتُ من أنصار مدرسة يسوع المسيح، وغاندي، ومحفوظ، في المقاومة السلبية، صددت بيديَّ كليهما بعيدًا عن الآخر. تعجبت من نجاح هاتين الذراعين الهرمتين في الإقصاء ما بين الرَجُلين الغَضبين. لكنني لم أكتف بإبعادهما جسديًا، بل صِحت بهما قائلًا:
“ما بالكما تتصرفان كالأطفال هكذا؟ أنسيتما أننا في صالة سفر بمطار، وقد يأتي رجال الشرطة ليقبضوا علينا بتهمة إثارة الشغب، فيمنعونا من السفر؟”
نزل كلامي عليهما كالبرد فوق رأسيهما، فهدآ في لحظة، واتخذ كلاهما مقعده مضطرًا. بعدها صار عليَّ أن أتدخل أيضًا، لأمنع تطور الأمور من جديد، فتوجهت بكلامي نحو أمير ملتمسًا:
“بهدوء يا أمير يا بني، قل لنا ماذا كنت تقصد حين اتهمت زياد بإفشال مهمتنا؟”
انفكَّ أمير يتفوه بكلمات مبتورة وجمل قصيرة غامضة، حاول أن يخرسها فضغط بكفه فوق فمه كعادته. أخذت أربت فوق كتفه حتى نجحت في أن أهدّئ من روعه.
وبدا لي كأن سؤالي قد أراح زياد أيضًا، فقد التفت نحوي مستفسرًا بدوره عن سرّ احتداد أمير المفاجئ. جمع الأخير من شتات أفكاره، وتوقف بغتة عن كلماته المتلعثمة، وأخذ ينظم من أنفاسه، فبدا لي كأنه يمارس طقوسًا قد تدرب عليها خلال رحلته العلاجية من قبل. وبعد لحظات طفق يوجه كلماته بهدوء إلى زياد:
“أ.. أ .. انـ .. انظر.. انظر هنا يا أخ زياد، لقد بدأنا الرحلة آملين في العثور على كانديد، صح؟” ثم أخذ نفسًا عميقًا وأضاف: “ألم تسأل نفسك عن السبب؟ حسنٌ، لقد قال لك الأستاذ عاطف قبلًا بأنني أعد رسالة عن كانديد، ولكن هل هذا كاف ـ في رأيك ـ لأن نواصل تعقبنا له من بلد إلى آخر هكذا؟”
كان للكلام الهادئ مفعول السحر، حينما تنامى إلى أذني زياد وإلى عقله. وسرعان ما استدار نحو أمير مستطلعًا، وأجابه بدوره:
“حسنٌ، أريد أولًا أن أعتذر عن وصمك بالجنون، وأسجّل الآن أمامكما أني لم أقصد قولي ذاك. ولكنك الآن تثير فضولي بلا شك يا أمير.”
ثم أدار وجهه ناحيتي قائلًا:
“بالله عليكما فسّرا لي سر ولعكما بـ كانديد هذا، ولِمَ تبحثان عنه بإصرار هكذا؟”
بما أنه أشركني هكذا في سؤاله، بادرت بالإجابة محاولًا تشذيب جواب أمير المتوقع:
“أمير يعتقد أنّ العالم الذي نحيا به، قد فسد فسادًا مطلقًا، وأن كانديد ـ رمز الطهر والصدق ـ هو من نحتاجه لإنقاذ البشرية، والسعي نحو الخلاص.” نظرت نحو أمير مستطلعًا موافقته على ما قلت، ثم أدرت وجهي من جديد نحو زياد: “هل فهمت الآن؟”
انفرجت أسارير زياد، على عكس ما كنت أتوقع. ثم انبرى يهز رأسه مرات وكأنه يعاود الإجابة عن تساؤلات يبدو أنها طرأت له مسبقًا. وبعد فترة تأمل وجيزة قال موجهًا كلماته لأمير:
“ولكن ألا تراه أمرًا غريبًا، إن كانديد القرن الثامن عشر، كان دائم النفور من رجال الدين، بل والهروب من أمام وجوههم، بينما هو الآن يفعل العكس تمامًا، فيتقرب منهم، ويمارس الذِكر مع المتصوفة، والتعبد مع البوذيين؟”
ودهشت من تركه مصيبة العثور على شخصية روائية عتيقة، ووجودها المادي تعيش وسط عالمنا، بعد قرنين من الزمان من خلقها، واكتفائه بالتساؤل عن اختلاف سلوكها عما كانت عليه في سطور رواية فولتير! بل وكدت أقهقه لمَّا سمعتُ رأي أمير الحاضر، وكأنه سبق وطرح تلك الفكرة في رأسه مرات ومرات من قبل، وتأملَها جيدًا:
“أنا لا أعتقد أنّ كانديد كان ينفر من الدين في الرواية، ولكن من رجال الدين؛ وبالتحديد كان يشمئز من الفاسدين منهم؛ كالقس المحقق الذي اتخذ عشيقة له، أو اليهودي التاجر المُرابي الذي سجن ليدي كوناجوند في بيته، أو المغاربة المسلمين الذين كانوا يحرصون على أداء الصلوات الخمس وسط المذابح الحربية، وأمثلة أخرى كثيرة. ولكنه في أحيان أخرى امتدح أهل ’إلدورادو‘ وحكيمهم، حين أعلمه بأنهم يعبدون إلهًا واحدًا، يصلون له ويشكرونه على عطاياه في كل لحظة، وقوله حين سأله عن وجود قساوسة بالبلدة، بأن كلاّ منهم كان قسيسًا لنفسه ولهم.”
فعقب زياد وهو يومئ وكأنه أصاب لب الحقيقة، وقد ارتسمت بسمة هادئة على وجهه:
“لذا صار يتحلّق حول الدراويش، والرهبان البوذيين المسالمين، وهو يتجه الآن نحو كوالالمبور ليشهد التعايش ما بين مختلفي الأديان. فهمتك الآن يا أمير. انه لشيء جميل حقًا!”
في الحقيقة لا أنكر أنني استفدت شخصيًا من ذلك الحوار الدائر. أضاف إليَّ تفهمًا لحماس أمير المتقد، وحميّته في اللحاق بهذا الـ ‘كانديد’ الذي لا يلبث أن يفر منا كلما ازددنا منه دنوًّا. وارتحت لتفهم زياد لفلسفته، وتعامله ببساطة مع ذاك اللغز الذي حيرني شخصيًا.
ومع ذلك، فما لبث أمير أن عاد وعكر صفاء الجو من جديد، حين قال موجهًا كلامه لزياد:
“لذلك أزعم أن كانديد هرب منا، حين أدرك سوء سريرتك ونظراتك النهمة لبنات الشيخ القوني، ومضاجعتك للعاهرات، وأخيرًا اصطحبتَنا إلى بيت الرذيلة، ذاك الذي دعوته تدليكًا!”
تدخلت فورًا قبل أن يحتدم الشرر من جديد:
“يا أمير، كلنا انبهرنا من جمال بنات الدرويش، وليس زياد وحده. كما أنه لم يكن بوسعه مواجهة تلك الإغراءات المهولة في بانكوك، فسقط مرة، ثم تاب إلى ربه. الله غفَّار يا بني.”
ثم أضاف زياد بدفء:
“ثم تذكر إني لم أكن أدرك فلسفتك يا أمير في تعقب كانديد، بل احتسبت دافعها ورقة علمية كنت تحررها. على العموم لك كلمتي أن أكون عند حسن ظنك من الآن فصاعد!”
تساءلت بيني وبين نفسي، عما لو صار حماس زياد في العثور على كانديد، وإصراره على مشاركتنا رحلتنا، مجرد رغبة شخصية منه بات يرجوها، في التطهر والسمو.
خلال الرحلة القصيرة، أعلنت المضيفة أن الطائرة ستتوقف في كوالالمبور، ثم تستأنف الرحلة، لتنتهي في سنغافورة. ولكنّ الطريف أنها أعلنت أنّ على الركاب المواصلين إلى سنغافورة أن يمتنعوا تمامًا عن مضغ اللبان، أو حتى الاحتفاظ به في جيوبهم أو في حقائبهم، إذ كان اللبان ممنوعًا في سنغافورة مثله كالمخدرات تمامًا. علّلت هذا بأنّ الحكومة وجدت أن تكاليف التخلص من اللبان الملقى فوق الأرصفة والطرقات باتت باهظة، لذا حرَّمت تداوله. وأعلنت أن عقوبة القبض عليك وهو بحوزتك كانت غليظة.
أضفى تعليقها هذا بعض المرح على مزاجنا الذي مال إلى الحدة إثر النقاش الذي دار قبل ساعات بالمطار.
عند وصولنا استقبلنا ضابط الجوازات واستفسر عن سبب الزيارة. لمَّا قال زياد سياحة، تهللت أساريره، ثم أشار إلى سيدة كانت تقف بعيدًا، فأتت على الفور. قدمت نفسها بوصفها موظفة بوزارة السياحة هناك، ضمن حملة تقوم بها الدولة لتشجيع السفر إليها. كانت “زينب” امرأة محجبة الرأس، مغالية في الاحتشام، فأدركنا أنها مسلمة. في الطريق إلى الفندق قالت لنا إن نصف سكان ماليزيا تقريبًا من المسلمين، والنصف الآخر موزع ما بين البوذيين ذوي الأصول الصينية، والهندوس الهنود الأصل. لكننا فهمنا أن مقاليد الحكم والقوانين الغالبة كانت بيد المسلمين، وأن الشريعة الإسلامية كانت تسود القوانين هناك. قال (قالت؟) بتفاخر: “لذا نستطيع أن نأمن أثناء التسوق، إذ عقوبة السرقة صارمة.” ولكنها حذرتنا ـ ربما لعلمها بقدومنا من بانكوك ـ من مغازلة النساء، الأمر الذي قد يعرضنا لعقوبة قاسية. تنفس أمير الصعداء وهو ينظر نحو زياد مبتسمًا. سألها أمير مباشرة:
“أين يمكن لشخص غريب عن بلدك أن يراقب التعايش ما بين ذوي الأديان المختلفة هنا؟”
فضحكت زينب، وسط تعجبنا من قهقهتها، فالسؤال لم يكن فكاهيًّا ـ على الأقل كما ارتأيناه. ولكن سرعان ما ردَّت المرأة بعد أن انتهت من الضحك قائلة:
“عفوًا! أعذروني، ولكني ـ قبل يوم أو يومين فقط ـ اصطحبت عائلة من السياح، قادمين من بانكوك مثلكم، سألني رجل من بينهم السؤال نفسه، كلمة بكلمة! يبدو أنّ الجو في بانكوك لم يكن على ما يرام، حتى صار أصحاب الديانات المختلفة يتعاركون في الشوارع هناك!”
فتجاهلنا مزحتها، وعقَّب زياد بحماس على الفور:
“وماذا قلتِ لهم، بما أجبتِهم؟”
ضحكت المرأة من جديد بعصبية، ثم قالت:
“قمت بدعوتهم لزيارة ’مسجد نيجارا القومي‘ و’كهوف باتو‘ الهندوسية ومعبد ’ ثيان هو‘ البوذي!”
رد أمير ملاحقًا إياها:
“وهل ذهبت بهم إلى كل تلك الأماكن؟”
فردت زينب متحيرة من اهتمامنا المبالغ بهؤلاء الأغراب:
“لا، للأسف! كان رد الرجل بأنه كان يبحث عن شيء مختلف، عن مكان يجمع بين كل هؤلاء معًا. ثم سألني أن أساعده في ابتياع تذاكر للطيران إلى أوروبا!”
شهق أمير، فسألتها أنا:
“أوروبا؟ وهل فعلت؟ أي مكان في أوروبا؟ ثم هل سافروا فعلًا؟”
فأجابت زينب على الفور:
“مهلًا، مهلًا، ما شأنكم أنتم بهؤلاء؟ هل تعرفونهم؟”
رد زياد بلباقة:
“نعم، هم أصدقاء! تقابلنا وإياهم في تركيا، ثم سافرنا معًا إلى بانكوك، ولكنهم سبقونا إلى كوالالمبور، وكنا نود أن نصحبهم من جديد في رحلتنا هنا! أرجوكِ أن تعلمينا: هل سافروا فعلًا؟”
بدا على زينب الارتباك، شاعرة أنها باحت بأكثر مما يحق لها، بخصوص أناس ليست متأكدة من معرفتنا بهم. فردَّت متلعثمة:
“أنا سيدي.. أعني أن ليس بوسعي.. عفوًا، أنا لا أملك أن أجزم، فتلك أمور تخصهم وحدهم”. وصمتت السيدة قليلًا، ثم أضافت: “ربما يكونون اعتزموا التوجه إلى بوخارست أو بودابست.. هذه في رومانيا وتلك في المجر! أعرف.. أعرف.. كل ما يمكنني أن أقوله: البلد التي يقسمها النهر الشهير إلى بلدين، كما عندكم في مصر! ولكن من الجائز أن يكونوا ما يزالون هنا بعد في انتظار السفر.”
ثم تطلعت نحونا ببسمة خبيثة وسألت: “هل تريدونني أن أرسل لكم حافلة صغيرة في الصباح لتصحبكم في رحلة إلى المسجد القومي والمعابد الوثنية، لعلكم تقابلونهم هناك؟ على أي حال فلن يكلفكم الأمر الكثير، فسوف تجدون أسعارنا زهيدة!”
تعجبت من وصفها لمعابد مواطني دولتها بالوثنية، وتأكدت عندها أننا لن نعثر على كانديد هناك، إن صح كلام أمير عنه. ولكن حتى أمير وزياد كانا ـ فيما بدا ـ على رأي مخالف بشأن الذهاب. أومأ زياد موافقًا، وشجعت أمير بينما كان ينظر إليَّ ليستكشف ما إذا كنت معترضًا.
تبقّى أمامنا نحو ثلاث ساعات قبل غروب الشمس، فاقترحت زينب أن نتجه إلى برج “منارة” الشاهق، حيث المطعم الدائري، الكائن على ارتفاع مائتين واثنين وثمانين مترًا، والكاشف للمدينة كلها. وبالفعل اتجهنا إلى هناك وتناولنا أطعمة لم أتبين على نحو الدقة مكوناتها، وإن حسبتها متشابهة مع مثيلاتها في بانكوك. لكن المنظر من خلال النوافذ الزجاجية العملاقة، كان يأخذ العقل فعلا كما قال زياد. دار بنا المطعم المتحرك، ومن تحتنا بدت السيارات تزحف كالنمل، واشرأبت الأبنية تجرِّب الوصول إلينا، ومن ورائها رسخت سلسلة جبال استوائية سوداء، مغطاة بزروع خضراء داكنة، وفي الخلفية سماء زرقاء، فصلت ما بينها وبين المرتفعات سحابات هفهافة، تلامست مع قمم الجبال تعانقها، وتمتزج مع ما يبدو كأنه بقايا ثلوج شتوية، ما تزال عالقة بها.
باغتني أمير بسؤاله:
“هل تعتقد أننا سنجد كانديد هنا، يا أستاذ عاطف؟”
كانت تلك المرة الأولى التي يواجهني خلالها بنحو مباشر في أمر كانديد المزعوم. الحقيقة ـ في واقع الأمر ـ هي أنني لم أكن قد صغت رأيا قاطعًا بشأنه، حتى اللحظة. بل وحتى شهادة الدرويش التركي، أو الراهب البوذي، أو مقولة زينب بشأنه، لم تكن قاطعة في نظري. فأيّ منهم لم يجزم بمعرفته الوثيقة به، ولم يحدثنا في شأنه إلا بعد إلحاح منا. ومع ذلك، فمن الغريب أن يوجد شخص ـ أو شخوص ـ بتلك المواصفات غير المألوفة نفسها، في ثلاثة بلدان مختلفة، وبشهادة أناس لا تربط ما بينهم ثقافة أو دراية مشتركة. ومع كل ذلك فلم أشأ ـ في الوقت ذاته ـ أن أجرح أمير بشكي هذا، وخاصة هنا، ونحن بعيدان عن بلدنا كل ذلك البعد. فأنا أستطيع التصرف ـ لو كنا هناك بمصر ـ إذا ما انهار أمير أو احتاج إلى رعاية طبية، أو نفسية. أمّا هنا فلن أقدر أن أنجده إن ألمَّ به مكروه.
لذا وجدتني أجيبه قائلًا:
“إذا كان كانديد ما يزال بعدُ هنا، فمن المنطقي إذن أن يتواجد في تلك الأماكن التي اقترحتها زينب، والتي يتبدى ولعه بها.”
في الفندق، أخرجت كراستي الزرقاء من الحقيبة، وشرعت أدوّن كعادتي كل ما مر بنا، فتعجبت من خضم الأحداث المتعاقبة، خلال الزمن الوجيز منذ تركنا الإسكندرية.
في الصباح الباكر كنا جالسين في الحافلة، وصار يقودها رجل صيني، أو بالحري أحد المواطنين الماليزيين من ذوي الأصول الصينية. من خلال أقاويله التهكمية تعرفنا على الجانب الآخر من الحكاية؛ فتبدّى استبداد الغالبية المسلمة للأقليات البوذية والهندوسية في البلد. فالرجل الذي احتفظ بمرح جلي في كل لحظة، كان حاصلًا على درجة ماجيستير في إدارة الأعمال، ويدرس للحصول على درجة ماجيستير أخرى، ولكنه لم يتمكن بعد من تخطي مرؤوسته زينب، بالرغم من أنها لا تحمل سوى درجة البكالوريوس. وقال إن زوجته ـ الحامل ـ كانت تعمل بوظيفتين أيضًا، حتى يتمكنا من توفير مصاريف طفلهما المرتقب. ومع ذلك فلقد احتفظ الرجل بابتسامة قانعة، ولم يبد سخطًا على حاله ذاك.
قلت في نفسي: “منتهى القهر هو ألا تقدر ولو على التذمر على ما أنت عليه!”
في الطريق إلى المسجد الوطني حذرنا من أنه قد يكون مغلقًا، إذ لا تفتح أبوابه في العادة إلا في أوقات الصلاة.
تبادلنا النظرات، ثم طلبنا منه أن نتجه نحو “معبد كهوف باتو” الهندوسي عوضًا عن المسجد، فرحب الرجل.
بعد نحو نصف ساعة وصلنا. صففنا الحافلة الصغيرة وقال لنا الصيني بأنه سوف ينتظرنا بها، إذ ينبغي أن يذاكر قليلًا استعدادًا لدروسه المسائية التي يختلف إليها، بغية الحصول على درجة ماجيستير في التسويق ـ بالإضافة إلى ماجيستير إدارة الأعمال التي كان يحملها ـ حتى يتسنى له أن يبدأ مشروعه المستقل، بعيدًا عن الوظيفة الحكومية. ثم نظر نحوي الرجل المرح الطلة مشفقًا عليَّ، وحذرني قائلًا:
“المعبد يقع بداخل كهف عند قبة الجبل، وهو يقع على ارتفاع مائتين واثنتين وسبعين درجة يا أبي، فهل تقدر عليها، أم تفضّل أن تبقى معي هنا بالسيارة؟”
ابتسمت ودفعت قائلًا:
“دعني أحاول أولًا، وإلا ستجدني أنقر على زجاج الحافلة، فتعيدني إليها.”
قابلنا تمثال ذهبي هائل للإله، يتوسط ساحة واسعة تحوم حولها حمامات تنقر الحبوب التي يلقيها إليها الأطفال من الزوار. امتلأ المكان بالعائلات التي بدت وكأنها في نزهة، مثلما هو عليه جو “حدائق المنتزه” عندنا بالإسكندرية يوم عيد “شم النسيم”. ساد جو من المرح، وتبادل الضحكات، ووقف باعة عناقيد الزهور البيضاء، والصفراء، والفوشية، والفل، والياسمين، يعرضون بضاعتهم، والشمس تلوّح وجوههم السمراء. وصار الصبية يركلون كرة قدم، والشباب يتفاكهون في حلقات، والرجال يقضمون الفطائر وحبات الفاكهة التي تخرجها النساء المتسربلة صدورهن بعناقيد الزهر، من أكياس بلاستيكية ملونة، والشيوخ يجلسون فوق السور المحيط بالساحة يتأملون الأبناء والأحفاد في سعادة.
وفي الخلفية، ظهرت درجات السلم المطلية بالتبادل باللونين الأزرق النيلي والأحمر، وهي تبدو كأنها صاعدة نحو السماء، ولكنها في الحقيقة تنتهي في باطن جبل صخري مشوب بنبتات خضراء عشوائية هنا وهناك.
شككت في قدرتي على تسلق ذاك الدرج كله، وقررت ألا أحاول، فأعود لأنتظرهم بالحافلة. لكنّ أمير وزياد ألحا عليَّ في أن أصحبهما، مشيرين إلى شيوخ أكبر سنًا مني يصعدون ويهبطون الدرج بمساعدة ذويهم، فتشجعت. وبالفعل استطعت بعد جهدٍ جهيد، أن أصل إلى الكهف العملاق في وسط الجبل. وجدنا بالداخل عدة تماثيل شبيهة بالتمثال الذهبي الذي بدا من أعلى صغيرًا منمنمًا. في حضن المحراب المرتفع، سجد المتعبدون في خشوع وسكون.
وفي طريق النزول تبين لي وجود مسقط مياه يؤدي إلى نبع لا أدري أين يبدأ، أو إلى أين ينتهى هكذا في منتصف الجبل.
ولكن كان كل الرواد ـ فيما عدانا ـ من الهنود، ولم نصادف رجلًا يمكن أن يشبه كانديد.
عدنا إلى صديقنا الصيني الذي كان ما يزال يدرس في الحافلة. تبدلت جديّة البحث والاستيعاب على الفور لمًا لمحنا، وحلّت ابتسامة أصيلة فوق وجهه، وبادرنا قائلًا:
“لا بد أنكم تشعرون بالجوع الآن. ماذا عن الذهاب إلى معبد بوذي بوسط الحي الصيني حيث عشرات المطاعم، فيتسنى لكم تناول الغداء هناك؟”
ذهبنا بالفعل إلى معبد “سري ماها ماريامان” وجزنا المدخل الهرمي المرصع بمجموعة بديعة من التماثيل الملونة، يقف أمامها تمثالا جنديين يعتليان حصانين، شبيهين بتماثيل القديسين مار جرجس وأبي سيفين عندنا. وفي الداخل، صافحتنا ألوان مبهرة يغلب عليها الأزرق الفيروزي والوردي والذهبي والأخضر بمختلف درجاته. امتلأ المكان كذلك بالمتعبدين من أهل المدينة، ولكن كنا السائحين الوحيدين، ولم نجد أثرًا لـ كانديد أو صحبه.
وبينما جلسنا نأكل، باغتنا أمير بالسؤال:
“ما هي تلك المدينة الأوروبية التي يقسمها النهر الشهير إلى قسمين؟”
فرد الصيني على الفور:
“النهر الأشهر ـ بالطبع ـ هو نهركم؛ النيل. أما النهر الشهير الآخر فهو نهر الدانوب، الذي سُميت أشهر مقطوعة فالس ليوهان شتراوس على اسمه!”
فعقب زياد عندها:
“إذن فهي بودابست! هي المدينة التي يقطعها الدانوب إلى شطرين بودا، وبست، أو بشت كما ينطقونها، لقد زرناها؛ مايا وأنا، وشرح لنا المرشد السياحي هناك هذا الأمر.”
عند نهاية اليوم، عدنا إلى الفندق وكانت زينب بانتظارنا من جديد، فلاقتنا بابتسامة مصطنعة، إذ تعجبت من تأخر عودتنا، ثم نظرت نحو الصيني بريبة. طلب أمير منها أن تحجز لنا أماكن للسفر إلى بودابست. بيد أنّ زياد فاجأنا بأنه لن يصحبنا، إذ كان ينبغي عليه أن يعود إلى إسطنبول، بعد أن ترك مايا بمفردها كل ذاك الوقت.
لم أكن أدري إلى تلك اللحظة، شدة اعتيادي على وجوده بصحبتنا.
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.
البحث عن كانديد: الجزء الخامس، الرابع