كيف دُوّن التاريخ الإسلامي؟ (4): لغز الشعر الجاهلي 

4

مقدمة

النهضة العربية أو حركة التنوير العربية بدأت في مستهل القرن الثامن عشر بعد الحملة الفرنسية عام 1798م، وسادت أساسا في مصر ولبنان. و كان من أبرز مظاهرها انتشارُ الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر، والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات، وترجمة المناهج الدراسية الاوروبية وتفاعلَ الأدب العربي مع الآداب الغربية تفاعلاً عميقاً أدى إلى ظهور فنون أدبية جديدة لم يكن لها في العربية وجودٌ من قبل، كالأقصوصة والرواية والمسرحية والاوبرا. وأيضاً، كان أول ظهور لسُفور المرأة واختلاطها بالرجل في مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة. 

 

 

وكان من ابرز أركان تلك النهضة رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الافغاني، وبطرس البستاني. ولا يفوتني هنا ذكر الاخوين اللبنانيين سليم وبشارة تقلا، مؤسِّسَي جريدة « الاهرام » المصرية في  1875م. وامتدت هذه النهضة لتشمل عواصم عربية أخرى، تمامًا كما في المهجر…لكن تلك الحركة النهضوية انتكست، بل فشلت فشلاً ذريعاً، وتنامت حركات جهادية وتكفيرية عنيفة. والسبب في ذلك هو ان هناك مشكلة عالقة منذ مئات السنين ومركونة على الرف وهي الموروث الديني، الذي ورثناه عن آبائنا واجدادنا، وتربّينا عليه منذ نعومة اظفارنا! هذا الموروث الديني يلعب الدور الأخطر في تشكيل الوعي الجمعي وتحديد معاير ثقافته ومنظومة القيم. لقد توهَّمَ النهضويون الاوائل انه بمجرد القفز على هذه المشكلة او تجاهلها يكونون قد حلوها! هذه المسألة لا تُحَلُّ الا بعد مواجهتها وجها لوجه، ومعاركتها، ، كما فعل فلاسفة التنوير الاوروبي مع تراثهم المسيحي، ولن تنهض أمة من الأمم قبل أن تنقد موروثها الثقافي كله، وعلى رأسه الموروث الديني!

 وفي هذا السياق، بعد الغاء الخلافة الإسلامية في إسطنبول على يد مصطفى كمال اتاتورك في 1923م، ظهر في مصر اتجاهان فكريان متضادان:  اتجاه يتمثل بالأغلبية الساحقة بقيادة جامع الازهر وتيارات إسلامية بدأت بالظهور كحركة « الاخوان » و« انصار السنة المحمدية » الوهابية، ينادي بإحياء الخلافة الإسلامية. واتجاه آخر مضاد من فئة نخبوية قليلة نادت باستبدال نظام الخلافة بالحداثة الاوروبية بمفهومها الحضاري الشامل! فأصدر المفكر والأديب، وشيخ الأزهر، علي عبدالرازق، عام 1925، كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وأثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل في القرآن على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل إن الله ترك الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة. ويعدُّ كتابه أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية داخل الوسط الإسلامي!

 أحدث هذا الكتاب ردة فعلٍ صارمة شديدة ضده، وشَنَّت جميعُ الأحزاب حملةً على رأيه، حتى « حزب الوفد » الذي كان يرأسه العلماني الليبرالي سعد زغلول، ولأسباب حزبية سياسية (تحدثنا عن علي عبدالرازق في مقالة « مستقبل الإسلام »). 

وبعد صدور هذا الكتاب بسنة، أي عام 1926م، أصدر عميد الادب العربي طه حسين كتاب « في الشعر الجاهلي » وواجه هذا الموروث الديني بجرأة غير مسبوقة، ودخل صلب الموضوع وانتقد اهم موروث ديني عند المسلمين ألا وهو القرآن الكريم.

 نُبذَة عن الظروف التي مَهدت لطه حسين كتابةَ (في الشعر الجاهلي)

عام 1911، كان طه حسين يبلغ من العمر 22 عاما ويدرس العلوم العصرية والتاريخ الإسلامي واللغات الشرقية في الجامعة المصرية  حينمااستمع الى محاضرة زائر مستشرق إيطالي يدعى كارلو ألفونسو نلينو عن تاريخ الشعر عند العرب من الجاهلية حتى عصر بني أمية، يشرح فيها أن البنية اللغوية للشعر الجاهلي وتصوير البيئة وصور الحياة المتتالية لا تنم عن حقبة جاهلية بل هي مرآة لحياة المسلمين في فترة الازدهار ما بعد الفتوحات. وأضاف ان هناك نقاداً ونحويين عرباَ من العصر الأموي والعبّاسي كانوا ينظرون الى الشعر الجاهلي نظرةَ ريبة وعدم ثقة في « جاهليتها »! تلك المحاضرة هي التي زرعت بِذرة الشك لديه تجاه الشعر الجاهلي.

  • حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914 في سن الـ25، فأُوفِدَ الى جامعة باريس ودرس الأدب الفرنسي وعلم الاجتماع والتاريخ الروماني واليوناني والتاريخ الحديث، وأعد أطروحة الدكتوراه الثانية في 1918 إضافة الى دبلوم الدراسات العليا بامتياز في القانون الروماني.
  • بعد عودته الى مصر، حاول ان يصنع في الادب العربي ما صنعه « ديكارت » في البحث الفلسفي المعتمد على الشك المنهجي، وبدأ يطرح السؤال الذي أرهقه طويلا:  هل « الشعر الجاهلي » فعلا « جاهلي »؟ وهل بالإمكان عمل دراسة موازية طرحها المفكرون الأوروبيون في وقت سابق تسمى « المشكلة الهوميرية »!  فقد اثبتوا من خلال البحث التاريخي واللغوي ان الملاحم الشعرية الطويلة في « الإلياذة » و« الأوديسة ليست نتاجَ القرن التاسع قبل الميلاد، انما هي تراكمات تراثٍ شفاهي لقرون عديدة نُحلت وكُتبت فيما بعد ونُسبَت لشخصية خيالية سميت « هوميروس »  فبدأ يحلل و يتغلغل في الشعر الجاهلي متبعا الشك الديكارتي، حتى انه ذكر في مقدمة كتابه: (وقد اصطنعت منهج ديكارت في بحثي هذا)! وبالمناسبة، منهج الشك ضرورة أساسية في البحث العلمي. فعلى سبيل المثال، البُخاري اختار 6 الاف حديث في « صحيحه » من اصل 60 الف حديث، ما يعني انه شك في صحة 90% من الاحاديث التي جمعها، لأن الشك هو السبيل الى انتقاء الصحيح والصائب.
  • وجد في الشعر الجاهلي معطيات كاملة لا تؤدي الى برهان يقيني بأن ما كُتب ينتمي الى العصر الجاهلي، وانه نُحل واُختلق في العصر الاموي والعباسي لأنه يُحاكي حياتهم، أي يُحاكي حياة العرب في الترف والشرب والنساء والنعيم، وانه كُتب في عصر استقرار دولة الخلافة الإسلامية. 

مثال على ذلك معلقة « عبيد بن الابرص » الذي يقول فيها (والله ليس له شريك ـــ علام ما أخفت القلوب).

هذه الصياغة بمفرداتها إسلامية، لا يمكن ان تكون جاهلية!

وكذلك « هلهلة الشعر »، أي كما جاء في المعجم جعلُ الشعر رقيقاً ليناَ خُنثاَ وخالياَ من الكلام الغريب الوحشي، والذي نُسبَ إلى عَديّ بن ربيعةَ التغلبي (توفي 100 ق هـ).. « الهلهلة » ليست سمة جاهلية، بل تعكس حياة البذخ والنساء والميول الجنسية المختلفة في العهد الاموي والعباسي عندما فتحوا على الحضارات الأخرى. 

  • الشعر الجاهلي لم يتحدث عن العبادات والعقيدة السائدة عندهم! كيف تكون قريش بهذا الايمان الراسخ القوي بآلهتها وتحارب وتضحي من اجل ان تحافظ على عقيدتها دون ان تصورها في الشعر الذي هو لسان حالها؟

 

بمَ علَّلَ طه حسين رواج الصناعة الشعرية بعد الفتوحات الإسلامية؟

في بداية القرن الثاني الهجري هزمَ المسلمون الإمبراطورية الرومانية وحرموها من أغنى مناطقها. كما سحقوا الإمبراطورية الفارسية واحتلوا معظم مناطق الشرق الأوسط. وكان لا بد لهم من صنع تاريخ وأمجاد تتوج هذا الإنجاز المُذهل. وفي تلك الفترة نشأت حركة « الشعوبية »، وهي حركة اجتماعية قومية ظهرت بوادرها في العصر الأموي، إلا أنها ظهرت للعيان في بدايات العصر العباسي. قال عنها « القرطبي » هي حركة «تبغض العرب وتفضل العجم». وقال « الزمخشري » في « أساس البلاغة »:  «وهم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم»! كان الشعوبيون يتمسكون بهذه الآية من القرآن: ”يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ”.  كانت النزعة الشعوبية واسعة وقوية بدأت بين الفرس اولاً ثم شَمَلت الأتراك في نهاية العصر العباسي، لعدة أسباب منها أنه في عصر الفتوحات الإسلامية، كان الفرس أكثر تحضراً من العرب، وأكثر مدنية، فنما لديهم شعور بالاستعلاء. وتعمقت نزعة التعصب بعد أن قام المسلمون ممثلين بالعرب بالسيطرة على بلادهم. كما أن الفرس دخلوا الإسلام بأعداد هائلة فتشكلت منهم أكثرية عددية بين « الموالي ». بالمقابل، لم يكن لدي العرب الفاتحين أي  تراث علمي، ادبي او فلسفي يفتخرون به. فعلوم الفلسفة والفلك والطب كانت مستوردة من اليونان، وعلم الإدارة من الفرس، وعلم الهندسة من الفراعنة، وحتى فن الرواية مثل (كليلة ودمنة) كان مستورداً من الهند… كتابة الشعر كان هو الفن الأدبي الوحيد الذي يتقنونه! وخوفاً من سيطرة العجم على مفاصل الدولة ادارياُ، امر خلفاء وحكام الدولة الإسلامية المؤرخينَ والمفكرين والكتابَ بإعادة تركيب وتفصيل التاريخ الإسلامي، وأجزلوا العطاءات والهبات على الشعراء لإعادة صياغة القصص والمآثر والبطولات الشفاهية والروايات وكتابتها شعرياً واعطائها وهجاً اعلامياً مقابل أموال طائلة كانوا يُغدقونها عليهم.

وفي هذه الحقبة التاريخية كُتبت المعلقات والتي كانت في البداية سبعاً ثم اُضيف اليها ثلاث أخرى في مرحلة متأخرة لـ « الأعشى » و« النابغة الذبياني » و« عبيد بن الأبرص »، وقيل انها كُتبت بماء الذهب وعُلقت على أستار الكعبة قبل الإسلام!!

هل فكرة التشكيك في الشعر الجاهلي والمعلقات حديثة؟

كان أبو عمرو بن العلاء (توفي 150هـ)، عالمُ النحو وإمامُ القراءة في البصرة، ومعلمُ « الخليل بن احمد »، اولَّ من اتهم الشاعر حمّاد الراوية بنحل الشعر الجاهلي… وقال الأصمعي تلميذ أبوعمرو بن العلاء “كل شيء في أيدينا من شعر امرؤ القيس من حماد الراوية إلا شيئاً سمعناه من أبي عمرو بن العلاء »! وقال المتنبي أن « حمّاد الراوية » عند البصريين « غير ذي ثقة وغير مأمون »! وكذلك، ابن سلاّم الجمحي (توفي 232هـ)، وهو أحد اهم رواد الادب وأول ناقد متخصص في القرن الثالث الهجري، وقد كتب الخلاصة فيما قيل عن أشعار الجاهلية، وجمع الأراء المتفككة عن كل ما قاله الشعراء ودرسها بطريقة نقدية واعية. 

ما هي المكامن في كتاب (في الشعر الجاهلي) التي أغضبت (الازهر) وأثارت فوران الإسلاميين؟

  • يقول طه حسين: (للتوراة أن تُحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يُحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تُحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم الي مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها)!

نفيُ وجود إبراهيم وإسماعيل يترتب عليه الشك في أمور تمس الأسس التي بُنيَ عليها دين الإسلام. اولاً، الحج، الذي هو ركن من اركان الإسلام، قائم أساسا على قصة إبراهيم واسماعيل، فالله هو الذي امر إبراهيم بناء الكعبة ” وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ” والآية وإذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ” و” جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ” و” وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ».

ثانياً؛ نفيُ وجود إسماعيل يعني ضمناً انكار زواجه من قبيلة جُرهُم اليمنية التي خلف منها ابنه عدنان، جد رسول الإسلام محمد.

يُعلق طه حسين انه تم تلفيق هذه القصة حتى يربطوا اليهودية والمسيحية بالإسلام.. كيف ذلك؟

المسيحيون اليهود (المسيحيون العبرانيون) دونّوا الأناجيل الأربعة من التوراة وأضافوا اليها العبارات والقراءات الجديدة… القران في محتواه حوالي 60 % تراث وقصص وتجارب إنسانية مكتوبة في التوراة والانجيل. نبي اليهود موسى ذُكر في القرآن 136 مرة وابراهيم 69 مرة وفرعون 71 مرة، بيد انه ورد ذكر محمد في القرآن أربع مرات فقط! حتى المسيح ذُكر 25 مرة، ومريم 24 مرة ولوط 27 مرة! وفي القرآن أدلةٌ تؤكد أهمية ومرجعية التوراة والأنجيل وأن فيهما « هداية ونور » : (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ  وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) 

ومن هذا المنطلق كان لا بد من نسج قصة تربط التوراة والانجيل بالقرآن الذي نَزَلَ ناسخاً وخاتماً لهذه الأديان، وكان على نحو ما ذكرنا بأن إبراهيم اقبل وابنه إسماعيل من بلاد الرافدين الى مكة وتعلم إسماعيل العربية من قبيلة جُرهُم القحطانية اليمنية الذين ناسبهم وخلف منهم عدنان جد الرسول، وسمّوا نسل عدنان بالعرب (المستعربة) وبني قحطان اليمنيين بالعرب (العاربة) او الاقحاح.

ويعلق طه حسين أنه إذا كانت هذه القصة صحيحة فلمَ هذا الاختلاف والبون الشاسع بين لغة الجنوب الحِميرية ولغة الحجاز وقريش قبل الإسلام، وفي وجود هذا الاختلاف الكبير بين لغة جنوب وشمال الجزيرة قبل ظهور الإسلام وعدم وجود لغة عربية قياسية موحدة كاللغة العربية الفصحي الحالية، فكيف تكون لهم اشعار بلغة عربية موحدة في فترة زمنية كانت تفتقر لوجود لغة عربية قياسية موحدةٌ متفق عليها كما ذكرنا في المقالة السابقة  فامرُؤ القيس كان يمنياً يتحدث اللغة الحِميرية والأعشى قيس عراقياً يتحدث الآرامية وعمرو بن كلثوم كان من تَغلِب المسيحية حيث اللغة القبطية، والنابغة الذبياني كان قرشياً حيث اللغة كانت مزيجاً من الحجازية البدائية والسريانية والقبطية عند المسيحيين والعبرانية الجنوبية عند اليهود… هذه المعطيات تُعزز فكرة ان الشعر الجاهلي تم انتحاله وتأليفه من قبل الرواة والشعراء في نهاية القرن الثاني الهجري بعد مرحلة التقعيد اللغوي وتحويل اللغة الشفاهية إلى لغة كتابية، ولم يكن قولاً متواتراً وانما كان من نسج خيالهم الواسع وقوة ملكة الشعر لديهم… واذا كان تواتر الشعر الجاهلي مشكوكاً فيه، فالأحرى ان يكون تواتر النص الديني ايضاً ادعاءً وتخميناً,، ولا حياة في لغة لا تُكتَب، لأن ما لا يُكتَب يموت ويضمحل. 

شَاهِد قبر ملك العرب مصنوع من البازلت، وُجد في نمارة في حوران ، جنوب سوريا. معروض الآن قرب الآثار الشرقية في متحف اللوفر في باريس – غرفة 19. كما توجد قطعة أصلية منسوخة في متحف الخط العربي في دمشق القديمة. يُعتبر هذا الشَاهِد دليلاً دامغاً على عدم وجود لغة عربية متكاملة، كالتي نقرأها اليوم، في حقبة ما قبل الاسلام.

الترجمة العربية لرسم الحروف النبطية نقش النمارة علي شاهد القبر كما نشرها المستشرق الفرنسي رينيه دوسو عام 1905

***

 

  • ومن الأمور التي اثارت حنق وامتعاض التيارات الدينية هو ما ذكره عن شعر امية بن الصلت من اختلاق شعر جاهلي لإثبات نص قرآني، واعطاء انطباع بأن هذا الشاعر الجاهلي تأثر بالقرآن وأخذ منه، كما تُشير الابيات التالية:

وَيَوْم مَوْعِدِهِمْ أنْ يُحْشَرُوا زُمَراًيَوْم الَتَّغَابُنِ إذ لا يَنفَعُ الحَذَرُ

كَثَمودَ الَّتي تَفتَكَت الدينَ… عُتّياً وَأُمَّ سَقبٍ عَقيرا

ناقَةٌ للآلة تَسرَحُ في الأَرضِ… وَتَنتابُ حَولَ ماءٍ قَديرا

وَبِفِرعَونَ إِذا تَشاقَّ لَهُ… الماءُ فَهَلّا لِلَّهِ كانَ شَكورَ

قالَ إِني أَنا المُجيرُ عَلى …الناسِ وَلا رَبَّ لي عَليَّ مُجيرا

فَمَحاهُ الاِلَهُ مِن دَرَجاتٍ …نامياتٍ وَلَم يَكُن مَقهورا

امية بن أبي الصلت شاعرٌ مخضرم احتار النُقاد واحترت انا شخصياً في أمره! اشتُهر بالحنيفية والتوحيد وكان من الدعاة إلى نبذ الأصنام وتوحيد الإله. عايش أمية بن أبي الصلت ظهور دعوة النبي محمد، وقد جاءت الأخبار أنه التقاه وتحاور معه وسمع منه القرآن لكنه أبى أن يسلم، وقال « الشك يداخلني في محمد »!

والسؤال الذي يُطرح هو:  لماذا يتم انتحال شعرٍ ويُنسب الى شاعر جاهلي لتأكيد نص ديني؟

السبب في ظهور هذا النوع من الانتحال الشعري هو بروز فرقة « المعتزلة » التي ازدهرت في العصر العباسي بسبب تسرب الأفكار الفلسفية اليونانية!

 لعبت فرقة المعتزلة دوراً رئيسياً على المستوى الديني والسياسي، واعتبرت ان القرآن مخلوق (« مُحدَث قريب العهد »). واخضع المعتزلة القرآن للتأويل العقلي ونفوا صفة الإعجاز البلاغي والعلمي فيه، واعتبروا ان القرآن يحوي نصوصاً متنوعة ومختلفة ومتعارضة أحياناً… وكرد فعل، قام التيار المضاد النقلي باختلاق هذا النوع من الأشعار.

ماذا حَدَثَ للأديب طه حسين بعد نَشر كتاب (في الشعر الجاهلي) في 1926م؟

فسّر علماء الازهر هذا الكتاب بأنه تشكيكٌ في ألوهية القرآن، وطعنٌ في شخصية الرسول، فعملت زوبعة شديدة وعاصفة مدوية. وكعادة التيارات الأصولية، قاموا بنقل بحث ونقاشات النخبة حول هذا الكتاب من الركن العلمي الى المنابر وإلى الشارع الذي يمتاز بقدر معرفي ضئيل، لإشعال فوران غضب التعصب الديني. فخرجت يومها مظاهرات طلابية من الأزهر في شوارع القاهرة تندد بـ (طه حسين) وتلعنه وتتهمه بالكفر والعمالة للفرنسيين والانجليز! أعقبها بيانات مؤتمرات واجتماعات، ثم بلاغ من شيخ الازهر، وآخر من نائب في البرلمان واخيراَ مثوله امام وكيل النيابة « محمد بك نور »،  الذي كان محامياً وكاتباً واديباً درس القانون في السوربون. وكانت التهم الموجهة لطه حسين هي الطعن في القرآن، الطعن في النبي، والطعن في اللغة العربية..

حفظ وكيل النيابة المحضر وبرئ عميد الأدب العربي وانتهت القضية ولم تذهب الى المحكمة لعدم وجود « قصد جنائي من تأليف الكتاب، حيث بيّن طه حسين في التحقيق انه عمل هذا الكتاب لطرحه للنقاش وليس كحقيقة مطلقة، يمكن قبوله او رفضه.

تراجع الدكتور طه حسين بفعل الضغط البيئى والاجتماعي وألغى الفقرات المثيرة للجدل وسمّى الكتاب « في الأدب الجاهلي ».. ربما كان يُريد هذا الصخب حتى يُثير العقل ويُحَرك المياه الراكدة.

الخلاصة

  • يجب ان تنحّي عقيدتك وتنحّي قوميتك وتنحّي قناعاتك الشخصية جانباً وانت تتعرض لظاهرة الموروث الديني بالبحث والدراسة.

•    عند العرب، ومنذ مئات السنين، يوجد عقل يُسمى « ولي الأمر » يحكم باسم الدين له هيمنة مطلقة امتثالاً للآية:        «  أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ». بعد الحملة الفرنسية على مصر والاحتلال الإنجليزي، خُوطب العقل العربي بخطاب آخر غير الخطاب الديني المهيمن على كافة نوافذ الوعي والثقافة منذ قرون طويلة. هذا الخطاب الآخر بدأ يعطيه نموذجاً للحياة مختلفاً وناجحا، يتمثل في نظرة عقلانية وتجريبية لمختلف مناحي الحياة والهدف منه توفير الرفاهية وتخفيف المعاناة البشرية. الاديب طه حسين كان يُمثل هذا الخطاب الآخر الذي يُهدد الهيمنة الدينية المطلقة التي تبدأ في محاربة أي فكر تنويري مٌتعقّل بالنبذ اول،اَ ثم الكراهية والاقصاء ثانياَ، ثم اذا امكن القتل مثل ما فعلوا بالمفكر فرج فوده والاديب محمود محمد طه.

ليس كتاب طه حسين هو الذي يزعج الإسلاميين حتى الآن وبعد مرور خمسة وتسعين عاماً من تأليفه. ففكرة الشعر الجاهلي بأنه منحول ليست جديدة، وإنما « الشك المنهجي » الديكارتي في الموروث الديني والثقافي هو الجديد الذي أزعجهم! الشك الذي يؤدي إلى يقين مؤقت قابل للبحث والتغيير والشك أيضاً… أمام منظومة دينية ترى العالم ثابتاً وجامداً، ولديها إجابات نهائية ومطلقة ومنتهية الصلاحية في زمننا هذا. وتحت شعار « الثوابت الدينية » تريد من كل فرد من أفراد المجتمع أن يكون داعية ومطوَّعاً وألا يفكر بحرية. 

  • هنا لا يفوتني ان اذكر انه، بالرغم من ان خطاب الحداثة الغربية أحدث زلزالاً في طريقة التفكير، فقد ظهر مفكرون تأثروا كثيراً بالثقافة الغربية ولكنهم كانوا يكتبون بالإسلاميات والنمط القديم والثوابت من القرن الأول الهجري، كالعقاد واحمد امين ومحمد حسين هيكل (الاديب وليس الصحفي)، فكل ما كانوا يكتبونه كان تاريخاً دعائياً وليس بحثاً ونقداً، وبأسلوب المحامي الذي يقدم مبررات لأخطاء الرموز والشخصيات التاريخية. 

يقول المـفكـر الانجليزي برنارد شـو:

حقيقة أن المؤمن أسـعد من المُشَـكك هي حقيقـة غير دقيقـة، كوصف الرجل في حالة السُـكر بأنه أسـعد من الرجل الواعي، وهي سـعادة سـاذجة ونوعيتها رخيصـة وخطيرة.

تحياتي لكم….

كيف دُوّنَ التاريخ الإسلامي؟ (3): مخطوطات صنعاء

كيف دُوّن التاريخ الإسلامي..؟ (2)

كيف دُوِّنَ التاريخُ الإسلامي..؟ (1)

مقدمة كتاب « في الشعر الجاهلي »

 

(نُشَر لأول مرة على “الشفاف” في 15 ديسمبر 2021.)

Leave a Reply

4 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
هشام الطوخي
هشام الطوخي
1 year ago

Hisham Altoukhi ليس لدينا آثار مادية تؤكد وجود الشعر الجاهلى فى عهد الجاهلية ، كما أنه ليس لدينا أدلة مادية لأغلب التاريخ السابق لعهد الدولة العباسية ، بل ليس لدينا أدلة على وجود أبو جعفر المنصور نفسه! بل وهناك أدلة مادية تؤكد أن الدولة الأموية قبل عبد الملك ابن مروان كانت دولة مسيحية! التاريخ الحقيقى لا يمكن معرفته من خلال كتابات المؤرخين والمؤلفين، فأغلبها – ان لم يكن كلها – مؤلفات مزيفة يملؤها الكذب والتلفيق! المؤكد من الماضى هو ما يثبت من خلال دراسة وتحليل الأدلة الأثرية. وحدها الأدلة الأثرية هى التى تدل على المؤكد من تاريخ البشر. الماضى البشرى… Read more »

فوزي الشرقاوي
فوزي الشرقاوي
2 years ago

مقالة هامة وضرورية .. سوف نغرق في الارهاب شيئاً فشيئاً ولن نخرج من دوامة العنف لقرون طويلة طالما لا نراجع التاريخ بجرأة وننقد تراثنا كما نقدت الامم والحضارات الاخرى تراثها وتقدمت.. سلامي وتقديري للكاتب الدكتور محمد الهاشمي

سامي النابلسي
سامي النابلسي
2 years ago

للأسف قدموا لنا صورة مشوهة في المدرسة عن الاديب طه حسين رحمه الله..الآن بعد قراءة هذا البحث الموجز الشامل الرائع عرفت لماذا.

كمال الحوراني
كمال الحوراني
2 years ago

شكراً على هذا الموجز الرائع لكتاب عميد اللغة العربية الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي…فعلا الكتاب ايقونة اعمال طه حسين

Share.

Discover more from Middle East Transparent

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading