رفض السلطات الإيرانية نحو 99 في المئة من المرشحين الإصلاحيين للانتخابات البرلمانية القادمة يعني في الحقيقة، وعلى أرض الممارسة الانتخابية، أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكثر الدول الإسلامية منعاً للفعاليات السياسية الشيعية الراغبة في ممارسة حقوق المواطنة والمشاركة الانتخابية، وأن إيران من الناحية العددية الكمية الأسوأ سجلاً في ميدان تجاهل حقوق مئات الألوف من الإيرانيين الشيعة وغيرهم في إدخال ممثليهم إلى مجلس الشورى في بلادهم. فلا تنافس إيران في هذا المنع دول مثل تركيا أو باكستان أو إندونيسيا أو أي دولة خليجية كالكويت، أو عربية مثل لبنان، فلا دولة من هذه الدول تجرؤ على ممارسة هذا الإجراء ضد أي فئة!
رئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني مصدوم بعد قرار المجلس الدستوري بمنع كل هذه الأعداد! فمن بين ثلاثة آلاف مرشح إصلاحي تم قبول ثلاثين مرشحاً فقط، أي واحد في المئة، فكأن الأجهزة الانتخابية في الكويت قد دققت في أسماء المرشحين والمرشحات الشيعة في الكويت… واختارت واحداً أو حتى عشرة من مئة!
تهميش الإصلاحيين المعارضين لبعض سياسات الدولة، بدأ مع إعادة انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد عام 2009، حين ندد الإصلاحيون بإبعادهم عن الحياة السياسية والبرلمان، وتظاهر الإيرانيون من كل دين ومذهب احتجاجاً على ذلك. وقد استعادت الحركة الإصلاحية نشاطها وأعادت تنظيم صفوفها منذ وصول الرئيس روحاني إلى الرئاسة عام 2013 الذي يدرك بعمق “أن العين في هذه الأوضاع بصيرة، ويد الإصلاح قصيرة”!
سمع الجميع صوت احتجاج الرئيس المكبل، وتعاطف معه في إعلان استيائه من استبعاد آلاف المرشحين، وأدرك كذلك معاني نقد الرئيس العلني للجنة المكلفة بتحديد “أهلية المرشحين” لتمثيل الناخبين! تصور أن هناك جهة حكومية في إيران تبتّ في حقك الديمقراطي بالترشيح وممارسة هذا الحق، وأن المسألة ليست كما في أي انتخابات برلمانية ديمقراطية، كالتي يطالب بها شيعة الكويت مثلا أو البحرين أو لبنان أو العراق! صيحة الرئيس روحاني كانت، كما نقلتها الصحف، قال فيها: “هذا البرلمان يسمى برلمان أمة وليس برلمان فصيل واحد، إن خوض الانتخابات حق للجميع وليس حكرا على المحافظين”.
نجاح الرئيس روحاني في حل “العقدة النووية” بعد تلقي موافقة السيد مرشد الثورة أتاح له الفرصة لأن يتصادم مع الجناح المتشدد، ويطالب بالمزيد من الاعتدال والانفتاح والواقعية والابتعاد عن المراهقة السياسية، وما تفرزه من مغامرات مثل حرق السفارة السعودية في طهران.
فمثل هذه الأعمال تدمر سمعة إيران وتحرج أصدقاءها قبل خصومها، فالبلاد بعد هذه “المصالحة” مع الغرب، على أبواب الانفتاح الاقتصادي والسياحي، وعلى وشك توقيع الاتفاقيات الاقتصادية والانفتاح السياحي وشراء الطائرات واستقبال الوفود والسياح.
يقال إن الولايات المتحدة قد أفرجت عن أكثر من ثلاثين مليار دولار مجمدة من أموال إيران، فماذا ستفعل إيران بها وبخاصة وسط أزمة انحدار أسعار البترول الحالية وندرة المال؟ هل ستصرف هذه الأموال على السياحة العسكرية والدعائية أم على الارتقاء بمستوى حياة الشعب وجلب الرخاء للإيرانيين؟
الإصلاحيون الذين تم إبعادهم يريدون وصل البلاد بالحياة الطبيعية، وإعادة إيران كدولة إقليمية كبرى ذات مكانة متميزة إلى مسؤولياتها المحلية والدولية، أما تيار المحافظين المهيمنين على مقدرات إيران منذ سنين، فالكل يشهد ما جرى للبلاد بسبب سياساتهم. حتى مرشد الثورة “السيد علي خامنئي”، شعر بخطورة ما جرى للسفارة، وقال إن “الاعتداء على السفارة السعودية كان أمراً سيئاً أضر بإيران والإسلام”، وهذه كلمة صادقة منه وفي الصميم، ولكنه بعد أن شعر بما قد يسببه هذا التصريح من إحراج للجناح المتشدد والمحافظين، وجّه الشكر كذلك للحرس الثوري لاعتقالهم البحارة الأميركيين، واصفا ذلك بـ”الخطوة الصحيحة”!
رئيس مجلس “تشخيص مصلحة النظام”، علي أكبر هاشمي رفسنجاني بدوره حذر من “عصيان” شعبي في البلاد، بسبب محاولة التيار المحافظ “هندسة عضوية البرلمان” وتشكيلها وفق إرادة النظام، كما انتقد بشدة رفض رجال الدين في مجلس صيانة الدستور أهلية السيد “حسن الخميني”، حفيد مؤسس الجمهورية، للمشاركة في انتخابات مجلس خبراء القيادة، وقال إن هؤلاء “يبثون الفرقة في إيران منذ 12 عاماً في حين لم يكن لبعضهم أي دور في الثورة”.
مرشد الثورة السيد الخامئني قال كلاماً بالغ الأهمية، يوضح فيه أساس الحقوق الديمقراطية والبرلمانية في الجمهورية الإسلامية، المرشد الخامئني أعلن بجلاء أن الجمهورية الإسلامية دولة عقائدية تسمح لكل الإيرانيين بالمشاركة في الانتخابات، ولكن لا تسمح إلا للبعض بعضوية البرلمان وبالمناصب السياسية، وأبدى كذلك اختلافه مع الرئيس روحاني بشأن من ينبغي السماح له بدخول البرلمان الإيراني أو نيل عضوية المجلس، هل ينطبق هذا المنع على الشيعة في العالم العربي؟
كلام المرشد كما نقلته أجهزة الإعلام كان: “حتى أولئك الذين يعارضون الجمهورية الإسلامية يجب أن يشاركوا في الانتخابات، لكن هذا لا يعني انتخاب المعارضين. فقط من يؤمنون بالجمهورية الإسلامية وبقيمها ينبغي السماح لهم بدخول البرلمان“.
هكذا كانت كذلك الانتخابات في الدول الاشتراكية مثل الاتحاد السوفياتي والصين والمجر وغيرها، وربما لا تزال في بعض الدول حيث يوجد “حزب حاكم”، يوافق على قوائم المرشحين لعضوية البرلمان فيرفض أغلبهم ويوافق على أقل القليل، وهكذا هي الانتخابات في العديد من الأنظمة الدكتاتورية الباقية وبعض أنظمة العالم الثالث الشمولية.
كلام مرشد الثورة “منطقي” في بعض جوانبه من ناحية وجود أنظمة تشيد بنظام الجمهورية الإسلامية. يقول: “إن جميع الأنظمة السياسية في العالم لا تقبل بإدخال من لا يعترف بها إلى مراكز القرار، وأنا دعوت هؤلاء الذين لا يقبلون النظام السياسي في إيران للمشاركة في الانتخابات، لكن هذا لا يعني إدخالهم إلى مجلس الشورى”.
وإذا كان كلام السيد المرشد منطقيا وصحيحا، أفلا يلفت أنظارنا جميعا أن واحدا في المئة فقط من المرشحين الإصلاحيين يُعتبرون اليوم من “المؤمنين بمبادئ الثورة الإيرانية وقيمها”، بعد قرابة أربعين سنة أو ثلاثين من استمرار النظام والتعبئة السياسية والتوعية الدينية والإنضاج الثوري؟ ثلاثون إيرانياً من ثلاثة آلاف؟
يقول السيد المرشد: هذا التحفظ على المعارضين للنظام ومنعهم من دخول مراكز اتخاذ القرار “موجود في كل الأنظمة”! وأستغرب لمَ لا يعترض أساتذة العلوم السياسية؟ هل حقا تمنع الأنظمة الديمقراطية معارضيها من الحصول على عضوية البرلمان؟ صحيح أن الحكومات الغربية مثلاً لا تختار معارضيها كوزراء مثلا، ولكن هل تمنع وصولهم إلى عضوية البرلمان؟ بل ألا تختارهم أحيانا في مناصب مهمة؟
ألا تضم الكثير من برلمانات العالم الثالث وأوروبا وآسيا أعضاء من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية والفاشية واليمينية واليسارية؟ هل التسامح السياسي في إسرائيل مع مرشحي مختلف الأحزاب ومع اليساريين والشيوعيين العرب أوسع من تسامح نظام الانتخابات في إيران؟ ثم ألم يضم البرلمان المصري واللبناني والكويتي في مراحل مختلفة أعضاء من مختلف الأحزاب والتكتلات والتيارات التي لا تؤمن بفكر أو أهداف أو حتى أحيانا بوجود النظام؟ دع عنك معارضتهم لبعض مواد الدستور وللكثير من القوانين وتهديدهم لبعض الحريات؟
من هذه الأحزاب في البرلمان اللبناني خاصة “حزب الله” الذي يختلف جوهريا في آماله وتطلعاته وبرامجه عن أهداف وتطلعات النظام اللبناني ودستوره. ولعل أخطر اختلاف بين قوانين الانتخاب في إيران وبين قوانين وبرلمانات كل الدول الديمقراطية في العالم الغربي والعربي والإسلامي، حتى إندونيسيا وماليزيا وتركيا مثلا، أن أسماء المرشحين لا تُعرض كما في الجمهورية الإيرانية الإسلامية على الاستخبارات والأجهزة الأمنية لأخذ رأيها، ولا وجود لمرشد في النظام يوافق على حقها في الترشيح وعضوية المجلس، وكل ما تعمله هذه الأنظمة التأكد عادة من السجل الجنائي والأخلاقي للمرشح مثلا.
ختاماً، ما موقف البرلمانيين الشيعة الكويتيين من “استمزاج رأي المؤسسات الأمنية والسياسية الكويتية أو الخليجية أو العربية أو الإسلامية للموافقة أو الاعتراض على كل من يترشح لعضوية المجلس أو البرلمان في الكويت أو الدول الأخرى أو إيران؟ أليس في هذا الإجراء خرق واضح فاضح للديمقراطية ولحق زملائهم في إيران؟ وما رأي الإخوة المحامين وأساتذة العلوم السياسية والكتّاب والنشطاء السياسيين الشيعة الذين لم يسمع أحد رأيهم في هذه “المذبحة البرلمانية” وإجراءات منع الترشح لمجلس الشورى الإسلامي، وأغلب المرشحين الإيرانيين على الأرجح من الشيعة، في حين يقلب هؤلاء وغيرهم الدنيا عندنا على أي نظام خليجي أو عربي أو إسلامي يمسّ أبسط حقوق الشيعة؟ ألا تستحق هذه المسألة الكثير من الاهتمام؟