لم يكن محمد حسنين هيكل كاتباً، ومؤرخاً، وصحافياً، وسياسياً، فقط، بل كان محصلة هذه الأشياء كلها. وبهذا المعنى كان أكبر من كل واحدة منها على حده. وقد شحذت ذهنه وقلمه أربعة أشياء اجتمعت فيه فأضفت عليه في حياة المصريين والعرب خصوصية غير قابلة للتكرار.
أولها: العمر المديد، فقد عاش حتى تجاوز التسعين، وأنفق قرابة سبعين عاماً منها في الحقل العام، وعلى مدارها جنّد ذهنه وقلمه في اعتناق قضايا، والدفاع عن سلطات، ومعارضة سلطات. وبهذا المعنى كان الزمن حليفه بقدر ما كان خصماً لآخرين. فالزمن، وحده، أكثر الكتّاب، والمؤرخين، والصحافيين، والساسة، حكمة وبراعة.
وثانيهما: سعة الاطلاع، وحب المعرفة، وهما من صفات زمن مضى، وكلتاهما وثيقة الصلة بمعنى المثقف العامل في الحقل العام، كما كان حتى النصف الأوّل من القرن العشرين، وكلتاهما، أيضاً، وليدة الزمن الإمبراطوري الأوروبي. فلا معرفة بلا قراءة، ولا قراءة بلا تعدد وتنوّع، ولا تعدد وتنوّع للعاملين في الحقل العام، والسياسي منه، دون أولويات، ولا أولوية فوق أو قبل الخريطة، ولا خريطة خارج النظريات العامة لتواريخ الإمبراطوريات مقروءة على خلفية الجغرافيا السياسية.
وثالثهما: الوطنية المصرية، كما أنجبتها ثورة الاستقلال المصرية، في العام 1919، وفي سياق ما أثارته من تداعيات، وأطلقته من ديناميات، تبلورت هوية المصريين الوطنية الحديثة، التي بحثَ جمال حمدان عن خصوصيتها في عبقرية المكان (الجغرافيا السياسية) وبحث الكتّاب والشعراء والفنانون عن جذورها في الفلاح (الذي كان محتقراً ومذموماً حتى أواخر القرن التاسع عشر) وفي الآثار والعمارة والتاريخ الفرعوني، والعهود الهيلينية، والفاطمية، والمملوكية.
وعلى هذا ستضفي العروبية الناصرية، المّستمدة من قراءات وطنية راديكالية لعلاقة مصر بالعالم والمحيط، في عقود سبقت، حيوية الاندفاع المصري في ستينيات القرن الماضي، خارج الحدود، في الدوائر الثلاث العربية، والأفريقية، والإسلامية، وبلاغة الدفاع عن فلسطين (التي قال هيكل، وكان مصيباً، إنها كانت دفاعاً عن مصر، وقال جمال حمدان، وكان مصيباً، إن خط الدفاع عن مصر في الوادي يبدأ في بلاد الشام).
ورابعهما: عبد الناصر. وعبد الناصر، بصرف النظر عن حماسة مؤيديه، وأحقاد معارضيه، ظاهرة غير قابلة للتكرار في تاريخ العرب الحديث، وفي يوم غيابه شعر ملايين العرب باليتم. في علاقة هيكل بعبد الناصر ما يعيد التذكير بعلاقة أندريه مارلو بشارل ديغول في فرنسا بعد التحرير. وفي وفاء هيكل ودفاعه عن عبد الناصر، وزمنه، يتجلى اثنان من الأشياء التي شحذت ذهنه وقلمه (سعة الاطلاع، والوطنية كما أنجبتها ثورة 1919) وهذا ما اختزله وأفصح عنه عنوان كتاب لهيكل “لمصر، لا لعبد الناصر“.
وبقدر ما كانت سعة الاطلاع (كما تبلورت في الزمن الإمبراطوري، لا في زمن الإنترنت، وثقافة الفيس بوك) والوطنية (قبل فيضان النفط واختلاط الحابل بالنابل، وصعود المثقف التنكوقراط) في خلفية تأييد عبد الناصر، في حياته ومماته، كانتا، أيضاً، في خلفية معارضة حكّام لاحقين تربعوا على سدة الحكم في مصر.
وهذا يأخذنا إلى تهمة كيدية تداولها البعض في حياة هيكل، ويوم رحيله، ومفادها أنه كان كاتب سلطة. وهذا بعيد عن الحقيقة. فقد ابتعد عن السلطة منذ خلافه مع السادات حول السلام مع إسرائيل، ولنذكر أنه كان في السجن يوم اغتيال الأخير. وفي زمن مبارك كان أوّل من قرع، قبل سنوات طويلة، جرس الإنذار بشأن ما يتهدد مياه النيل، وحذّر من مخاطر شقوق بدت في لحمة الوحدة الوطنية، أي العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر.
وبالقدر نفسه حذّر هيكل من مخاطر صعود الإسلام السياسي في مصر والعالم العربي. وكان في كل ما صدر عنه من تحذيرات يعتقد أن مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع تقع على عاتق مَنْ يحكم مصر. فمصر، في تقاليد الوطنية المصرية هي الرائدة، والقائدة، وصاحبة الدور الأوّل في الإقليم.
وفي هذا ما يأخذنا، أيضاً، إلى تأييده للمقاومة، والعلاقة بإيران، وتحفظاته على السياسة السعودية. ولن تكون مواقف كهذه مفهومة إلا على خلفية العلاقة بين الجغرافيا والسياسة، والعلاقة بين التاريخ ووعي الهوية والدور. فقد كان الهدف الرئيس للقوى الكولونيالية، التي ورثتها الإمبراطورية الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، الحيلولة دون قيام كتلة عربية موّحدة، ولم يكن هذا ليتأتى دون تهشيم مصر. لذلك، في كل ظاهرة مُقاوِمة ما يحمي العالم العربي من فقدان الذاكرة، والهزيمة النهائية. وبهذا المعنى من الحماقة، في نظر هيكل، التفريط بحليف قوي كإيران، والوقوع في شرك التقسيم الطائفي للعالمين العربي والإسلامي.
أخيراً، ثمة ما يستحق أن يُذكر: كان هيكل الدافع الرئيس وراء انتقال محمود درويش من موسكو إلى القاهرة في مطلع السبعينيات، وكان قرار السماح له بدخول مصر والإقامة فيها، الذي كتبه هيكل بنفسه، من آخر القرارات التي وقعها عبد الناصر قبل رحيله المفاجئ. وقد أشرف هيكل على كل الترتيبات الخاصة بتوفير إقامة كريمة ولائقة.
يوم وصوله سلّمه هيكل مفتاح الشقة، وأدخله إلى غرفة في مبنى الأهرام يجلس فيها نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، قائلاً: تفضّل، هؤلاء زملاؤك، وهذا مكتبك، وكانت تلك مفاجأة، لم ينسها الفتى ابن الثلاثين على امتداد ما تبقى له من عمر.
وهذه لمسة إنسانية وسياسية بارعة من لمسات هيكل. ثمة الكثير مما يُقال عن الأستاذ، الذي يليق به أن يُقال له في وداعه: شكراً، فحياتنا في مصر، والعالم العربي، اغتنت بك ومعك.
khaderhas1@hotmail.com