في علاقتنا مع الأشياء التي نحبّها، وتلك التي نريدها ونسعى إليها، دائماً ما نرغب أنْ نشعر بأهميّتها في تكويننا الثقافيّ والشعوريّ. ولذلك عادةً ما نسعى إلى التواصل معها من خلال مهارة التعبير الحر. ومن شأن ذلك أنْ يبعثَ فينا تجاهها جماليّات الارتجال والتلقائيّة والابداع والخَلق والتميّز، بعيداً عن سذاجة التلقينات المعتادة، وضحالة التعبيرات الجامدة والمحدودة.
إنّكَ في أحيانٍ كثيرة، ترغبُ في أنْ تعبّر عن شيءٍ ما يهمّك، أو يعنيكَ تماماً، أو تجده ملهماً لذاتك، أو تعتبره طريقاً إلى خلاصك، أو ترى فيه جمالاً وسحراً، أو إنّه يغنيك عن كثير من أشياء، أو إنّكَ تتواصل معه بِعفويّة مطلقة وتناغمٍ مميّز. وفي كلّ ذلك أنتَ لا تُخفي حبّكَ له، وقد لا تعرفُ تحديداً لماذا أحبّبته، ولكنكَ في الوقتِ ذاته، تراه يجعلك سعيداً ومبدعاً في أسلوبك وتعبيرك، وحتّى في طريقة تعاملكَ مع أوقاتك وأفكاركَ وانشغالاتك وانجازاتك.
بالتأكيد إنّها الأشياء الحرَّة في معانيها وتكويناتها وتنوّعاتها وامتداداتها، هيَ التي تمنحكَ مساحة كبيرة للتعبير عنها. تعبيراً جوهريّاً عن حريّتك في الأفكار والمعاني والاجتراحات، لأنّها تخلو من اشتراطات الفروضات الثقافية الجمعيّة، وتخلو من سلطة التفسيرات السائدة. إنّها تتهادى إليكَ في تعبيراتك الحرَّة والطليقة، وتبادلك متعة الفهم، استيعاباً خلاّقاً لجماليّة الإبداع والتلقائيّة والرحابة، فلا تنحشران في الزوايا المعتمة، ولا تندرجان تحت رتابة التفسيرات الخانقة، ولا تقعان في مهالك التعبيرات الجامدة، لأنّكما في الأصل تتطلّعانِ بشغفٍ إلى جمالية التعبير الحرّ، وتعرفان جيّداً أنّ ما يجمعكما في هذا الفسيح من حريّة التعبير، هو افتتانكما بطريقتكما غير الاعتياديّة في الاحتفاء بالمعنى والفكرة والأسلوب.
إنّكَ لا تستطيع أنْ تجد نفسكَ في مغاليق المعاني الخانقة، ولا في خرائب الأفكار المنغلقة، ولا في سجون التعابير المقيّدة، لأنّك تدركُ أنّ حريّة التعبير في جوهرها الإنسانيّ التاريخيّ، عاكسة بكلّ وضوح لتاريخ الإنسان في تجلّياتهِ التعبيريّة مع الكلمة والفكرة والمعنى والأسلوب. إنّها حريّتكَ التي تراها تمتدُّ إلى تاريخك الفكريّ وميراثكَ الفلسفيّ، وتجدها دائماً أمامكَ تتمثّل في عناوينها العريضة والناصعة. أنا أفكّر وأشكّ وأتفلسف وأتكلّم. ولذلك تحسبُ أنّكَ في كلّ مرَّةٍ وأنتَ تستدعي جوهركَ الإنسانيّ، تستدعي في الوقتِ ذاته، تاريخ حريّتك في التعبير عن كلّ ما تريد أنْ تتعالق معه قولاً وتعبيراً وفكراً وفلسفةً، وترى أنّ ذلك يعزّز فيك دائماً مهارة التواصل الانفتاحيّ الحرّ، مع أهمّ ما يبعثكَ إنساناً معبّراً منفتحاً، وحرَّاً وطليقاً.
وفي كلّ تخلّقاتكَ التعبيريّة الحرَّة، ثمّة حقيقةٍ تتجلّى أمام تبصَّراتك، تكشفُ بِوضوح عن جمال العلاقة في ما بينكَ وبين نزعتكَ الخلاّقة للتعبير الحر. تلك العلاقة التي تنشأ أساساً من وعيك بحقيقة ذاتك، وهيَ تتماهى جمالاً وإبداعاً مع نزعتك التعبيريّة الحرَّة، من حيث أنّك هنا عادةً ما تريد أنْ تمنح حقيقتكَ وجوداً معرفياً وفلسفياً، يتكامل توافقاً مع حريّتك في التعبير، لأنّك تعرف أنّ ما يستحقّ العمل من أجلهِ، هو أنْ تعرفَ كيف عليه أنْ يتوافق اكتمالاً وانسجاماً وفهماً مع حقيقتكَ الذاتيّة في تجلّيات التعبير الحر، وذلك ما يجعلكَ متفانياً في سبيل حقيقتك التي أسستها بوعيّ وجمال، انطلاقاً من حقيقةِ ما تريد أنْ تكون عليهِ دائماً في تعبيركَ الحر.
وفي تجلّيات تعبيرك الحرّ عن معانيك وأفكاركَ وافهاماتكَ وتجربتكَ وتأمّلاتك، تعرفُ أنّك لن تتخطَّى خوفكَ أو ترددك أو قيودكَ أو رواسبك المعيقة، إلاّ حينما تستطيع أنْ تملكَ حريّتك في التعبير، ومن دونها لستَ إلاّ تفسيراً مكرراً في معمعة التفسيرات والتعبيرات الجامدة والهامدة، ولذلك كم تسعى إلى أنْ تملكَ تعبيرك، إدراكاً جميلاً منك بحقيقة حريّتك التي تعرف أنّك من غيرها، لن تنجز شيئاً من حقيقة ذاتك المعبّرة والمفكّرة، فالانجاز في تخلّقاتك المعرفيّة، يعني أولاً تكاملكَ التعبيريّ مع معانيكَ وتجربتكَ الثقافية، ويعني أيضاً تأسيسكَ الخلاّق لملاذكَ الفلسفيّ المستقلّ، الذي ترى أنّه دائماً ما يأخذكَ حرَّاً إلى أجمل ما تريد أنْ تتعالق معه فكراً وتعبيراً وتجديداً وتطوّراً وخلقاً.
إنّكَ تحبُّ طريقتكَ الحرَّة في التعبير، ليس لأنّكَ فقط تريد ذلك، تماثلاً مع ذاتك المفكّرة والحرَّة، بل لأنّكَ وجدتَ فيها أسلوبكَ الذي من خلاله تعرف جيّداً كيف عليكَ أنْ تحبَّ منطقكَ في التعبير، ذلك لأنّ ما تحبّه، تبحث فيه عن منطقكَ الذي يجعلكَ متوافقاً معرفياً مع تعبيراتك، ومن غير المنطق تخلو تعبيراتك من رصانة الفكر ومتانة المقصد وجمال المعنى، وكم تسعى في كلّ مرَّةٍ إلى أنْ تكون منطقيّاً في تجلّيات تعبيراتك، لأنّك في كلّ مرَّةٍ تسعى إلى أنْ تكونَ ناقداً في متابعة أفكارك وتوجّساتك وقلقك الفلسفيّ، وواعياً في تجربتكَ الثقافيّة أيضاً.
وتعرفُ أنّكَ موجودٌ بِالقدر ذاته من وجودكَ كائناً تعبيريّاً حرَّاً، وتستطيع أنْ تكونَ موجوداً أيضاً، حين تكونُ موجوداً بالقدر ذاته من قدرتكَ على تجاوز ضحالة التعبيرات المقيّدة والمحدودة. فوجودكَ إنساناً وفيّاً لحريّتك في التعبير، يساوي وجودكَ إنساناً قادراً على تجاوز المعيقات والرواسب وانغلاقات التعبيرات الخانقة. ولأنّك موجودٌ عليكَ أنْ تتجاوز دائماً تلك الأبواب المغلقة، التي تسجنكَ عاجزاً في حدود التعبيرات التلقينيّة واليقينيّة. وتعرفُ أنّ وجودك التعبيريّ مرهونٌ بقدرتكَ على البحث عن حريّتك من وراء تلك الأبواب، حيث رحابتك الطَّليقة هناك، تستنطق فيكَ تجربتك التعبيريّة عبر الفسيح من المعنى والفكرة والأسلوب والخَلق.
وكم أصبحتَ تعرفُ أنّه ليس عليك وأنتَ تجترح أسلوبكَ التعبيريّ الحر، إلاّ أنْ تتجنّبَ السقوط في سذاجة التعبيرات الخاوية. فدائماً ما تضع المعنى والفكرة والأسلوب على قيد التأمّل والتفكير والنقد، لأنّك تتعالق مع الأشياء، وفقاً لجمالها وتنوّعاتها الفكريّة الثريّة، ووفقاً لانسياباتها الحرَّة في تجاوز الانغلاقات التعبيريّة. وهيَ الأشياء ذاتها التي تتجلّى تعبيراً حرَّاً وطليقاً ومتنوّعاً وثرياً في حضوركَ المستقلّ وفي فكركَ ووعيك، وكم تشعر برفقتها أنّكَ تعيش وقتكَ وحاضركَ، بكلّ متعتكَ الملهمة في الفهم والتعبير والخَلق، وأنّكَ من خلالها لا تزال تستطيع أنْ تعرفَ، أنّ ما أنتَ عليه من حريّة في التعبير، تمنحكَ شعوراً جميلاً بالاستمرار مبدعاً ومتفكّراً ومتفنّناً ومستنطقاً في براحاتها وآفاقها وعوالمها الشاسعة.
وقدرتكَ على أنْ تملكَ تعبيركَ بحريّة، يعني في المقابل قدرتكَ على أنْ تملكَ من الحقيقة شجاعة المعرفة وبصيرة الانفتاح. بمعنى آخر، كلّما كنت حرَّاً في تعبيرك، كنتَ جميلاً وحقيقيّاً في فلسفاتك المعرفيّة. فالحريّة في التعبير، تعادل تماماً وعيكَ في تبنّي المعرفيّات الإنسانيّة الخلاّقة والمسؤولة. وحريّتك هنا تستدعي بِالضرورة المعرفة الحرَّة، لأنّك تستقصد المعنى الذي يبعثكَ منفتحاً في تبصَّراتك الواعية، وتعرفُ من خلالها أنّ شجاعة المعرفة وبصيرة الانفتاح، يتوقّفان على ما تملكه من مساحة كبيرة في قدرتك على التعبير الحر، فمنتهى الجمال أنْ ترى في حقيقتك هذهِ جوهر الحريّة. الجوهر الذي يدفعك إلى أنْ تجد دائماً في هذه الحقيقة أصل الإنسان، من حيث كونهِ يبقى أبداً يكتسب المعرفة والانفتاح، إدراكاً ووعياً منه بحقّهِ الإنسانيّ في التعبير والرأي.
وحتّى لو نظرنا إلى الميثيولوجيات الإنسانيّة في التاريخ التعبيريّ للإنسان، نرى إنها كانت تتقصَّد الخروج الحر من العالم الواقعيّ المحدود، إلى رحابة العالم التخيّليّ بكلّ تنوّعاته ومستوياته التعبيريّة، ذلك لأنّ الإنسان عادةً ما يسعى إلى ترسيخ التوافق الرمزيّ ما بين الواقعيّ والمتخيّل، عبر تعبيراته الحرَّة في كافّة أشكال الفنون الكتابيّة، وحتّى الشفاهيّة أيضاً، خروجاً حرَّاً منه، إلى عالم الفنون التعبيريّة، وقد استعان دائماً بقدرته الفنيّة التعبيريّة الحرَّة تلك، في بناء تجربتهِ الميثيولوجية الفلسفيّة والأدبية والفكريّة، ودائماً ما كان ذلك في تجلّياته وتفنّناتهِ التعبيريّة، يعكس توقه الشديد إلى اقتناص الفكرة والمعنى والأسلوب، من شغفهِ الدائم بالإبداع والخَلق في مخاض التعبيرات الحرَّة.
وفي تعبيراتكَ الحرَّة عن كلّ ما يلامس حقيقة ذاتكَ التفكيريّة والإبداعية، تعرفُ أنّ مَن يأتي مفعماً بالأفكار والتجلّيات والدهشات، يأتي في الوقتِ ذاته، حرَّاً بِجرأة التفتّحات المعرفيّة الخلاّقة. ذلك لأنّ الإنسان التعبيريّ، دائماً ما يرى في الحياة وفي تصوّرات الوجود، شيئاً ما في أعماقه وفي تفكّراته ونظراته، يدفعه إلى ابتكار حريّته التعبيريّة، سعياً جادَّاً نحو تحقيق ذاته في انشغالات الفهم والمعرفة. وبِقدر حاجتهِ إلى تطوير ذاته تعبيراً وفهماً واستنطاقاً وإبداعاً، يثمّنُ في المقابل حاجته الدائمة إلى ابتكار حريّته في التعبير. فقيمة التعبير هنا، تعادل تماماً ما في قيمة الابتكار من الخَلق والإبداع والتغيير، إنّه اكتشافه المتجدد لرغبتهِ التعبيريّة في أنْ يتعالق مع الأشياء توافقاً وتكاملاً وتفنّناً واتساعاً على نحو مختلفٍ وملهم.
وما تملكهُ في تعبيركَ من حريّة السؤال والخَلق، تملكهُ في حبّكَ واحساسك، وفي عقلك للأشياء التي تلهمكَ من أهميّتها المعرفيّة والفلسفية، ما تمنح ذاتكَ حقيقتها في ممارسة تكوينها الثقافيّ بكثيرٍ من التدريب والتعلّم. فثقافة التعبير الحرّ تقوم أساساً على فعل التدريب الذهنيّ، لأنّها ثقافة ذاتيّة تتعالق بوعيّ مع حقّ الإنسان في الاعتقاد والرأيّ والأسلوب. وهي الثقافة ذاتها التي تستطيع أنْ تكونَ للذات المعبّرة ملاذاً حقيقيّاً، تنجيها من رداءة التعبيرات القامعة، ومن استبداد التفسيرات التعبيريّة الشائعة والمكرورة. وكلّما ذهبتَ بعيداً في تعبيراتك الحرَّة، اكتشفتَ الطريقَ إلى وجودك في فسحة المعاني والافهامات.
والسَّاعونَ دائماً إلى تعبيراتهم الحرَّة، يجنونَ دائماً حصاد حريّاتهم في تنوّعات الآراء، وفي ثراء الأفكار، وفي بدائع المعاني، لأنّهم مخلصون جداً لحريّتهم في تناول حياتهم وأسلوبهم، بما يجعلهم قريبينَ تماماً من وجودهم على قيد التأمّل والتفكير والنقد والسؤال. فجمال التعبير في وعيهم، يعني أنْ يملكَ الإنسان من الخَلقِ جمالاً في وعيّ البصيرة، وأنْ يملكَ من شهوة الخَلق تعبيراً في أفق الحريّة، إنّهم يعودون في كلّ مرَّةٍ إلى حريّاتهم، ممتلئينَ بتوقهم الشديد إلى أجمل ما يبعثهم أحياءً وسعداءً في أسلوبهم وطريقتهم التعبيريّة الحرَّة.
Tloo1996@hotmail.com
*كاتب كويتي