أعاد الهجوم الإيراني في «طهران» و«مشهد» على المقرات الدبلوماسية السعودية، المنطقة الخليجية والعلاقات بين دول هذه المنطقة وإيران، إلى حالة لم يشهد لها مثيل من التأزم، وقد تردت هذه العلاقات مراراً، ولكن ما قامت به قوى الباسيج وميليشيات الشوارع داخل المقرين من تحطيم وتخريب، عمّق أزمة الثقة ووضعت كل دول مجلس التعاون أمام مشكلة دبلوماسية كبرى، عظيمة التأثير على المصالح الإيرانية أكثر من غيرها، وبخاصة وإيران في بداية محاولتها لتطبيع علاقاتها الدولية.
من المستبعد تماماً أن تنطلق أية مظاهرة بشكل تلقائي حر في دولة مثل إيران، وبخاصة العاصمة طهران وكبرى مدنها الدينية مثل «قم» و«مشهد»، ولو كانت مظاهرة مماثلة من الإيرانيين قد اتجهت إلى «السفارة السورية» مثلاً في طهران أو السفارة الروسية، لما وصلوا إلى الشارع المحيط بهما، دع عنك أن يقتحموا الأبواب، ويصلوا إلى الغرف والملفات والأثاث.
اشتهرت إيران بعد الثورة للأسف، باقتحام السفارات واعتقال الدبلوماسيين وتجاهل الأعراف الدبلوماسية المستقرة بين الدول المتحضرة، حيث ندد حتى بعض أبناء نمر النمر نفسه بالاعتداء والاقتحام في طهران ومشهد.
غير أن لإيران تاريخا طويلا مؤسفا، يمتد نحو قرنين على الأقل، اشتد مع الثورة للأسف، في الإساءة للدبلوماسيين بل وقتلهم. كما حدث للدبلوماسي والكاتب الروسي جريبويدوف وبعثته إلى إيران عام 1829، لحل مشكلة دفع بعض التعويضات المالية وفق «اتفاقية تركمنشاي» لروسيا القيصرية غير أن البعثة وجدت نفسها طرفاً في قضية أخرى تتعلق بتحول بعض حريم الشاه للمسيحية وغير ذلك، وانتهت المشكلة أو تأزمت بإصدار أحد المراجع الدينية في إيران فتوى تسببت في «زحف جماهيري» على مقر البعثة الروسية، ومقتل الدبلوماسي جريبويدوف، مع بقية أعضائها، حيث لم ينجُ من القتل إلا صبي واحد، وهي الحادثة التي أشير إليها كثيراً عام 1979، عندما تم اقتحام السفارة الأميركية، وتم اعتقال الطاقم الدبلوماسي الأميركي فيها لأشهر.
وإذا كان الاعتداء اليوم على السفارة السعودية ضربة قاتلة لمحاولات الرئيس حسن روحاني تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون، فقد كان الاعتداء على السفارة الأميركية في العام الأول للثورة ضربة كذلك مدروسة لحكومة «بازركان» المعتدلة، التي كانت تحاول أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هجوم المتشددين وأنصار حزب الله الإيراني وجماعة ولاية الفقيه، وهكذا وجد أول رئيس وزراء بعد الثورة نفسه مضطراً لتقديم استقالته للخميني قائد الثورة، ولم تستقر الأعراف الدبلوماسية في الخارجية الإيرانية نفسها منذ ذلك اليوم.
مخطئ من يتصور في إيران أو يظن أن بالإمكان الإساءة إلى مكانة المملكة العربية السعودية ودبلوماسييها بهذا الشكل، وتمر الإساءة بلا عواقب فادحة. فالسعودية اليوم القوة الأساسية في استقرار المنطقة الخليجية والعالم العربي، وفي ردع قوى الإرهاب في الداخل والخارج، كما أن الأمن الاستراتيجي لكل المنطقة العربية بين الكويت وتونس، قائم على التنسيق بين السعودية ومصر، وبقية الدول العربية والخليجية الداعمة للاستقرار ومنع المغامرات السياسية والعسكرية واختراق القواعد الدولية.
وإذا تم اختراق هذا السور المنيع وتمزيق هذه الدول، فلا يعرف أحد من سيحكمه أو يتسلط على مصيره من دول وأحزاب وجماعات إرهابية مسلحة، لسنوات طويلة قادمة، وما يرافق ذلك من عنف ودمار، هذه الحقيقة لا علاقة لها بالاختلافات القومية أو المذهبية أو أية توازنات، بل وأرى شخصياً فوق هذا كله وبقناعة راسخة، أن مصالح الشيعة خاصة وأمنهم واستقرارهم وحريتهم المذهبية في عموم المنطقة الخليجية والعربية، ربما أكثر حتى من مصالح أهل السُنة، تعتمد أول ما تعتمد على قوة المملكة العربية السعودية والدول الخليجية، والتحالف الذي نراه حالياً، والتعاون المصري الخليجي، وكلها دول تتجنب المغامرات السياسية وتلتزم بالأعراف الدولية، ولا تدخل مثل إيران مشكلة وهي لم تخرج مما قبلها.
وإذا كان لشيعة العالم العربي والدول الخليجية بالذات حرص على استقرار سياسي وقوة مالية وعقارية وتجارية، وفرص العيش في أنظمة حديثة مستقرة، حيث العملة عملة والتجارة تجارة والقوانين قوانين، فلا مصلحة لها في أي مغامرة من مغامرات الحرس الثوري الإيراني أو جماعات حزب الله أو الفتن الطائفية المدمرة، والتي ستكون الأقليات المذهبية والقومية أول من يخسر فيها وأكثر من يدفع الثمن الفادح، كما نرى في كل مكان من العالم.
المسؤولون الإيرانيون لا يكفون عن استخدام الورقة المذهبية في الدول الخليجية والعالم العربي مثل لبنان والعراق، وتحاول الدعاية المذهبية الإيرانية توسيع نطاق «ولاية الفقيه»، لتشمل كل الشيعة وربما كل السُنة، وسائر الكرة الأرضية. ولو كانت هذه الحكومة ناضجة مسؤولة مستقرة التفكير، لتصرفت بشكل عاقل، وعرفت حدودها السياسية، وأدركت أن الدول الخليجية ومصر والدول العربية لم تزعم يوماً أنها تمثل أهل السُنة في إيران أو أي مكان، ولم تطالب أي أقلية دينية أو مذهبية كالبلوش والأكراد مثلاً بالانفصال أو التحرك أو التظاهر، ولم تقم ببناء أحزاب سُنية مسلحة في إيران على غرار تنظيمات حزب الله في كل مكان، وعندما كانت السلطات الإيرانية تقدم مراراً على إعدام رجال دين أو مواطنين إيرانيين من أهل السُنة، لم تكن الدول العربية والخليجية وحتى المملكة العربية السعودية تشجع أحد مواطنيها على تدمير أو احتلال السفارات الإيرانية أو حتى الإساءة لأي رمز مذهبي.
وكم نتمنى أن يقوم الشعب الإيراني وعقلاؤه وكبار الساسة المعارضين لمغامرات الحرس الثوري والمليشيات المذهبية وغيرها، بدورهم في أن تعود العلاقات العربية الإيرانية وبخاصة الخليجية إلى سابق عهدها.. وإنْ كان حتى هذا التمني اليوم من المستحيلات.