بـُعيد الإعلان المفاجيء في يوليو 2015 عن وفاة القائد الغامض لحركة طالبان الأفغانية الملا محمد عمر كتبنا في هذه الصحيفة، بناء على معلومات دقيقة من داخل أفغانستان وباكستان، أنّ أنصاره وتابعيه قد بدوا جولة من الصراعات الداخلية حول زعامة الحركة التي أخرجتها واشنطون من الحكم في كابول بالقوة في عام 2001، وقلنا باحتمال حدوث إنقسام فيها ولجوء كل فريق إلى السلاح على ضوء ما كان يتواتر من أنباء حول اشتباكات بين مناصري القائد الجديد “الملا أختر منصور” ومناوئيه في إقليم “هرات”، فضلا عن إستعدادات قيل أن الفريق الأول يقوم بها لمواجهة الفريق الثاني في إقليم “زابُل” المجاور لولاية “قندهار”. وقتها سخر البعض من هذا القول وأكدوا أن طالبان موحدة وأن قادتها قد انتخبوا “الملا أختر منصور” زعيما لهم وأميرا جديدا لـ”الإمارة الإسلامية” الوهمية، مقللين من شأن أي أنباء حول وجود خلافات أو صراعات.
اليوم يمكننا القول أنّ ما ذكرناه كان صحيحا، بدليل التطورات الأخيرة داخل الحركة وما يكتنف مصير قائدها الجديد من غموض، ما بين جهات (مثل سلطان فيضي المتحدث باسم نائب الرئيس الأفغاني الجنرال عبد الرشيد دوستم، ومولوي أمير خان متقي وزيرالإعلام في حكومة طالبان المقالة) تقول أنه لقي حتفه في مواجهات مسلحة وقعت بين أنصاره وأنصار القيادي الطالباني عبد الله سرهدي في منطقة كشلاغ بمدينة “كويتا” البلوشية الباكستانية الجنوبية وأن الحركة تحاول إخفاء الخبر، بسبب تأثيراتها السلبية المحتملة على معنويات أنصارها. وجهات أخرى (مثل المتحدث الرسمي بإسم طالبان “ذبيح الله مجاهد”) تنفي هذا الأمر جملة وتفصيلا قائلة أن الذي لقي مصرعه هو عبدالله سرهدي وليس أمير المؤمنين. وجهات ثالثة (مثل الاستخبارات الباكستانية ذات النفوذ الهائل على الحركة) تزعم أنّ الرجل قد أصيب فقط وهو لا يزال على قيد الحياة، ويخضع لعلاج قد يستغرق 8 أشهر، ولهذا أوكل تصريف أمور الحركة وزعامتها مؤقتا إلى “الملا هيبة الله آخوند زادة”.
وهذا يعني أننا ندخل مرة أخرى دوامة الغموض الذي كان دوما السمة الأبرز لهذا التنظيم منذ زمن قائده الراحل الملا محمد عمر. فحتى صورته الشخصية ظلت بعيدة عن التداول (لأسباب أمنية كما قيل) باستثناء صورة يتيمة إلتقطها له منذ أمد بعيد مراسل الـ “بي بي سي” في افغانستان. هذه الحالة تجددتْ الآن مع الملا منصور الذي لا يُعرف إنْ كانت الصورة المنشورة له حقيقية أم خلاف ذلك، خصوصا في ظل المعلومات القليلة المتوفرة عنه والتي لا تتجاوز أشياء من قبيل أنه في الأربعينات من العمر، وينحدر من قندهار، و أنه من خريجي نفس المدارس الدينية “الديوبندية” المتشددة في باكستان التي تخرج منها معظم القادة الطالبانيين، وأنه اعتقل في باكستان ثم أفرج عنه في عام 2006 وأنه عين مسؤولا عن قاعدة قندهار الجوية ثم وزيرا للطيران المدني والنقل فحاكما لقندهار حتى مايو 2007 فنائبا لرئيس مجلس الشورى الأعلى لطالبان حتى منتصف 2009 فنائبا للملا محمد عمر ورئيسا لمجلس شورى الحركة في عام 2010 ــ خلفا لرئيس المجلس السابق الملا عبدالغني برادر الذي أعتقل في فبراير من العام نفسه ــ مع احتفاظه برئاسة الشئون العسكرية في “غردي جنغل” وهو المجلس العسكري الأعلى لطالبان.
والجدير بالذكر أن الخلافات دبت بين رموز الحركة بمجرد الإعلان الرسمي عن وفاة زعيمها الراحل الملا محمد عمر حول من سيخلفه. ثم زادت حدة هذه الخلافات بسبب تنصيب منصور زعيما جديدا على حساب مترشحين آخرين من أمثال: الملا سردار يعقوب، وهو النجل الأكبر للملا عمر، والملا ذاكر قيوم، وهو قائد عسكري ميداني أعتقل سابقا وسجن في غوانتانامو ويعد من أوائل من أسسوا الحركة في عام 1994، إضافة إلى المجاهد السابق “الملا هيبة الله آخوند زادة”، و”مولوي جلال الدين حقاني” الذي يزعم أتباعه بانه صاحب مرتبة دينية متقدمة. حيث رأى بعض الموالين للخاسرين، ولاسيما القائد العسكري السابق لطالبان “الملا منصور دادا الله” أن ما حدث لجهة إختيار أختر منصور عمل يتناقض مع أسس الشريعة الإسلامية، وتمّ بضغوط مخابراتية أجنبية.
وإذا وضعنا جانبا مسألة الإمتعاض الشخصي والطموحات السياسية لدى شقيق الملا محمد عمر ويدعى الملا عبد المنان، وإبن الأول الملا يعقوب، وكل الأسماء السابقة الأخرى التي أتينا على ذكرها كسبب لمحاربة منصور ، فإن الأسباب الأخرى قد تشمل الأمور التالية التي ربما سببت القلق ونـُـظر إليها كخروج على ثوابت ما يـسمى بـ “إمارة أفغانستان الإسلامية”:
إخفاء منصور لنبأ وفاة سيده الملا محمد عمر لأكثر من عامين لأسباب قيل أنها ذات علاقة بمصالحه الشخصية وطموحاته السياسية، ورفضه رفضا قاطعا مناقشة موضوع زعامته، وتأهبه لإصدار فتوى جهادية ضد كل من يعارضه، ودعوته للحوار السلمي مع الحكومة الأفغانية الحالية إلى جانب موقفه المتردد وغير الحاسم ممن يسعى إلى خطف الخلافة الإسلامية وهو تنظيم “داعش”، خصوصا بعد إعلان الأخير قيام “دولة الخلافة الإسلامية”، وزيارته إلى طهران مؤخرا على رأس وفد طالباني رفيع المستوى مؤلف من 11 شخصا، وقيامه بإجراء محادثات مع قوى ومنظمات دولية معنية بتحقيق السلام في أفغانستان عبر صفقة بين طالبان وحكومة كابول بزعامة “أشرف غني” التي لا تعترف بها الحركة.
والحال أن الذين راهنوا على قرب تحقيق سلام دائم في أفغانستان بمجرد إختيار منصور زعيما لطالبان عليهم اليوم أن يعترفوا بفشل رهانهم، حتى بعد أن ظهر منصور في تسجيل صوتي لينفي مقتله. ذلك أن حركته تشكو من أزمة مصداقية بعد أن أخفت وفاة زعيمها السابق لسنوات.
*استاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين
Elmadani@batelco.com.bh