الرقص فوق الركام السوري لم يكن متيسرا لولا تغاضي ‘رئيس القوة العظمى’ باراك أوباما، المولع باهتمامات أخرى، عن المأساة السورية لأنها لم تكن من أولوياته ولم تمس مصالحه العليا.
منذ خمس سنوات، كانت الشرارة عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه مشعلا ثورات الربيع العربي، وإذا كان البعض في تونس يسخر الآن من “ثورة الياسمين” ويصفها بثورة “عربات بيع الخضار” مستندا إلى الصعوبات الحالية وصعود الإرهاب، فإن ذلك لا ينفي أن تونس تعتبر أفضل نموذج في مسار التحولات العربية.
وهناك نغمة نشاز مشابهة نسمعها عند أوساط سورية موالية أو انتهازية أو يائسة أو خائفة من الأعظم، تعتبر أن الخطأ – الخطيئة كان في الانتفاضة من أجل الحرية، وكأنه كان الأجدر الاستماع لتحذير النظام منذ الأيام الأولى للاحتجاح: “يبقى الأسد أو نحرق البلد” وهذا يترادف مع “الأسد للأبد”.
ومما لا شك فيه أن “المؤامرة الكونية” التي تكلم عنها الرئيس السوري بشار الأسد كانت موجهة، في الحقيقة، ضد طموحات الشعب السوري وسوريا كدولة وكيان وموقع، إذ أن النظام تقاطع مع قوى داخلية (متشددة أو جرى توريطها في العسكرة)، ومع غالبية “محفل الأمم” في تدمير البلاد وبنيتها التحتية ومؤسساتها وجيشها وقتل شعبها وتدبير أكبر تغريبة مؤسسة لتغيير سكاني منهجي. بالطبع كل ذلك “الرقص” فوق الركام السوري لم يكن متيسرا لولا تغاضي “رب بيت العالم” أو “رئيس القوة العظمى” باراك أوباما، المولع باهتمامات أخرى، والمتغاضي عن المأساة السورية لأنها لم تكن من أولوياته ولم تمس مصالحه العليا.
والآن وعلى ضوء اجتماع نيويورك (18 ديسمبر) المتمم لمسار فيينا الذي ينصُّ على مهلة زمنية من ثمانية عشر شهرا قبل الانتخابات الرئاسية السورية القادمة (لاحظوا عمق الحرص على الديمقراطية وعلى حق تقرير المصير عند جوقة “العهر الدولي”)، وعلى ضوء إصرار المحور الروسي – الإيراني يمكننا القول وفق حساب بسيط إن باراك أوباما سيغادر البيت الأبيض آخر 2016 عند انتهاء ولايته، بينما سيبقى بشار الأسد في “قصر المهاجرين” وربما سيروي لأبنائه وأحفاده أن باراك أوباما الذي اعتبر أيامه معدودة في أغسطس 2011، رحل قبله، وأنه انتصر باسم “الممانعة” على قوى “الامبريالية العالمية”.
في هذا الزمن المتغير والمباغت منذ نهايات 2010، ربما تحصل مفاجآت تطيح بهذا السيناريو، وغالبا ما كان التاريخ نتاج ما هو غير منتظر.
بيْدَ أن صعوبة الإحاطة بتقلبات اللعبة الكبرى الجديدة في القرن الحادي والعشرين (بين آخر التطورات ارتسام تقارب إسرائيلي – تركي في محاكاة أو تنافس مع التنسيق الروسي – الإسرائيلي) وكذلك بديناميكيات التغيير والتحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ العالم العربي المعاصر، وتفاقم الوضع في سوريا والعراق إلى ليبيا مرورا باليمن، دفع بالكثيرين إلى استنتاج طي صفحة “الربيع العربي” مع استمرار تحطيم الدول المركزية، والتفتت والاهتراء نظرا لمخاطر امتداد النزاع السني ـ الشيعي وآثاره السلبية على وحدة المجتمعات، ولصعود الإرهاب وتحول تنظيم “داعش” إلى تهديد عالمي لا سابق له حسب وصف أحد قرارات مجلس الأمن الدولي.
كل ذلك يتقاطع مع الذين يتكلمون عن “الشتاء الإسلاموي” في توصيف للحراك المنطلق من محافظة سيدي بوزيد التونسية في إنكار لكل إيجابيات التحولات الحاصلة، إلا أن المقاربة الواقعية تدفعنا إلى التذكير بتعبير “ربيع الشعوب” الذي جرى إطلاقه على الثورات الأوروبية في 1848، وهذا الربيع لم تكن نتائجه آنية وتلقائية، بل سرعان ما انتكس في 1849. وهذا لم يُغيّبْ إنجازات هذه الثورات التي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي. صحيح أنها كانت معركة خاسرة في البداية إلا أنها لم تكن نهاية الحرب والكلمة الفصل، وهذا الدرس المستخلص من تجارب أخرى يعد رسالة واضحة بأن التغيير قادم ولو بعد حين، مهما طال الزمن.
بعد التدخل الروسي وإقرار خريطة طريق للعملية السياسية في مسار فيينا، ومؤتمر الرياض للمعارضة السورية والتوافق الأميركي – الروسي على الخطوط الكبرى، ينتظر بعد اجتماع نيويورك للمتابعة صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يعطي إشارة الانطلاق لبدء تنفيذ خارطة الطريق العتيدة. وفي ما يتعدى أسلوب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي يبدو وكأنه يسلم بدور عراب المسار لنظيره سيرجي لافروف، كان فلاديمير بوتين واضحا في مؤتمره الصحفي السنوي يوم الخميس 17 ديسمبر حينما طلب من الجميع قبول تنازلات من أجل الحل السياسي، والأرجح أن هذا الكلام موجه للنظام في سوريا ولإيران. وهنا يكمن الرهان الأميركي والأوروبي على الدور الروسي على المدى القصير في عدم إفشال المسار لأنه يضمن عدم غرق موسكو في المستنقع السوري، وعلى المدى المتوسط في التخلص من رأس النظام كي يتم الإبقاء على الجسم.
حاولت واشنطن في اجتماع أصدقاء الشعب السوري في باريس أوائل هذا الأسبوع، اقتراح تعديل في تركيبة الوفد السوري المعارض في المفاوضات وبعض فقرات البيان الختامي لمؤتمر الرياض (لجهة إيجاد تعبير خلاق أو مطاطي حول رحيل بشار الأسد) لكنها لم تفلح، لكن هذا لا يعني أن الرياض وأنقرة والدوحة، كما باريس ولندن، لن تدفع لبدء التفاوض في يناير أو فبراير القادم لوضع النظام وحلفائه على محك الاختبار.
إنها الخطوة الأولى على درب شائك، خاصة أن الشعب السوري الذي يتعرض للأهوال يحتاج، فعلا، إلى هدنة إنسانية وفرصة لالتقاط الأنفاس، لكن الطامة الكبرى في سوريا تكمن في اختصار الدولة والنظام بشخص الرئيس، وعدم بقاء الجيش كمؤسسة وطنية حامية للدولة والمجتمع. بيد أن تبلور إرادة دولية حيال ما يسمى “أولوية الحرب على الإرهاب”، والخوف من غول التطرف يمكن أن ينتج تسوية ولو عرجاء يتطلب استكمالها تغييرا في التوازنات والمقاربة، وهذا غير ممكن نظريا قبل نهاية عهد الإدارة الأميركية الحالية.
والأدهى من كل ذلك، وعلى المدى الطويل، وجوب التنبه إلى الطابع النادر للنزاع السوري، إذ أنه أول صراع دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، وربما لا بد من الرهان على معاهدة وستفاليا جديدة (أو اتفاق يالطا جديد) في نطاق الشرق الأوسط الواسع ما بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والقوى الإقليمية البارزة، لمنع تحول سوريا وجوارها إلى نقطة ارتكاز لنزاعات طويلة مهددة للمنطقة والعالم.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس