ليالي الأنس في فيينا يقابلها استمرار التفجيرات في بركان الشرق الأوسط، وعلى الأقل في المدى المنظور يتوقف مسار فيينا على مكاسب أو نكسات التدخل الروسي في الميدان.
قبل حوالي قرن دار تاريخ المشرق والعرب بين القاهرة وسان ريمو ولوزان وفرساي حتى استقرت أمور ما بعد العصر العثماني ورسمت الخرائط وولدت الكيانات.
هذه المرة يبدو المخاض عسيرا لولادة شرق أوسط جديد. وفي فيينا كانت البداية في يوليو الماضي حين تم توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الخمسة + واحد، وفي أكتوبر انطلقت عملية سياسية معقدة حيال المسألة السورية، وربما يراهن البعض على توسم الخير في المكان بعد مواعيد لم تثمر في جنيف. فيينا عاصمة الموسيقى هي أيضا فيينا التي تركت بصماتها على تاريخ أوروبا والعالم لصلتها بالدبلوماسية وقواعدها.
بين بدايات الدبلوماسية الأوروبية والدولية الحديثة في 1815 (مترنيخ وتاليران ومبدآ توازن القوى ومحفل الأمم بعد هزيمة نابليون) ومؤتمرات 2015 يفصلنا قرنان من الزمن. حينها تمت إعادة رسم الخريطة السياسية لأوروبا، وفي هذه المرحلة تبدو الخريطة السياسية للمشرق موضوعة على مشرحة المصالح المتناقضة وتوازناتها.
لا يمكن التسرع في الحكم على نتيجة الكرنفال الدبلوماسي الذي جمع غالبية الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالنزاع، بعدما خاض الكثير منهم حروبا بالوكالة على أرض الشام. حرك التدخل الروسي المياه وأتى بالكل إلى فيينا كي يتم وضع قطار الحل السياسي على السكة، لأن موسكو تعلم أن عمليتها العسكرية في صيغتها الراهنة محكومة بسقف زمني، ولذلك تسعى لتقديم الإثبات على أن بوتين المتحكم بالملف السوري يسد الفراغ الأميركي، وبدل لعبة الشطرنج أو الجودو، يلعب هذه المرة البوكر على المكشوف. لكن يحق التساؤل ما إذا كان ذلك وراء الأكمة مجرد بوكر كاذب أم لعبة مغفلين مع أوباما من خلال توزيع أدوار أو تنظيم خلافات؟
يجدر التذكير بأنه منذ 2012، قرر أوباما وبوتين إنتاج حل سياسي للأزمة السورية، وقد كلفا وزيريهما المخضرميْن، جون كيري وسيرجي لافروف، بمهمة طبخ هذا الحل على نار هادئة، ووصل الأمر بالدبلوماسي السوفياتي “العنيد” ليبشرنا بمسار طويل من عدة سنوات كما حصل في دايتون بالنسبة للبوسنة بعد حوالي خمس سنوات من المجازر، أو بما يشبه اتفاق “الطائف” بعد خمس عشرة سنة من الحروب في لبنان.
وعلى وقع “دبلوماسية الحرب بالوكالة” فوق الصفيح السوري الساخن، جرى إقرار وثيقة جنيف (30 يونيو 2012)، والتي تم التأكيد عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2118، لكن الخلاف على المرحلة الانتقالية وموقع الرئيس السوري فيها ومصيره، أدخل مسار جنيف في حلقة مفرغة مع تحول الأزمة إلى أول نزاع إقليمي دولي في القرن الحادي والعشرين مصحوب بتفاقم ظاهرة الإرهاب.
في خريف 2015 على وقع هدير السوخوي تبرز على درب اجتماع فيينا القادم الكثير من العقد حول الشكل والمضمون. من ناحية البرنامج بدا واضحا من اجتماعيْ فيينا في الشهر الماضي، أن لافروف يتصرف بمثابة العراب للمسار ويريد أن يصل إلى هدفه أي الحفاظ على النظام السوري والنفوذ الروسي تحت العديد من العناوين البراقة حول السيادة وعدم التدخل في خيارات الشعوب، لكن الدوافع الحقيقية تشمل الربط غير المباشر مع اختبار القوة حيال أوكرانيا والجوار الروسي، وعودة موسكو كلاعب دولي أساسي كما إبان الحرب الباردة، والوجود العسكري والاقتصادي على الساحل السوري، سوق الطاقة وغيرها من الأسباب الجيوستراتيجية. ولكنها يمكن أن تتصل أيضا باختبار قوة آخر حول ترتيب الشرق الأوسط بعد خضات الأعوام الأخيرة والاتفاق النووي مع إيران.
في الجانب الآخر، يظهر أن المخضرم كيري، المرشح المتعثر في الرئاسيات الأميركية، يمتهن النفس الطويل مقابل لافروف عازف الغيتار والمدخن الكبير، ويريد أن يسهل المسار عله ينتزع لاحقا تنازلات حول مصير بشار الأسد من دون أن يظهر ذلك بمثابة انتكاسة لموسكو. بيْدَ أن جداول أعمال الأطراف الأخرى تجعل المسألة مثل طبخة البحص إذ يمكن لطهران أن تعطل أي حل لا يلائمها، أما الرياض وأنقرة والدوحة، كما باريس ولندن، فتجد نفسها تعمل جاهدة لمنع واشنطن من تقديم تنازلات إضافية لموسكو، أو ترتيبات ثنائية معها دون التنبه لهواجس الآخرين الأمنية أو السياسية . ينطوي بيان فيينا الختامي ونقاطه التسع على تراجع حيال بند جنيف 1 فيما يخص الشروع بالمرحلة الانتقالية، لكن إيجابياته النظرية حول التأكيد على وحدة الأراضي السورية والانتخابات الشفافة في الداخل والخارج، تجعل اجتماع 30 أكتوبر نقطة انطلاق مسار شائك وليس بداية النهاية للصراع السوري.
عمليا لم تحقق محادثات فيينا أي تقدم كبير. خلال منتدى المنامة الاستراتيجي هذا الأسبوع، ركز وزير الخارجية السعودي عادل الجبير على أن المملكة العربية السعودية ما زالت تعتقد أن الحل في سوريا يتمحور حول موعد رحيل الأسد ورحيل “قوات الاحتلال” (وفق تعريفه: إيران وروسيا). أما في ما يتعلق بالقضايا السورية الأخرى، فأشار إلى وجود مجال للمساومة والتوصل إلى تسوية. لكنه أصر على وضع جدول زمني واضح، يصل إلى ستة أشهر لتشكيل حكومة من دون الأسد، و18 إلى 24 شهراً لكي تضع هذه الحكومة الجديدة دستوراً جديداً وتعمل على إجراء انتخابات.
نائب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شدد على موضوع “رحيل الأسد”، لكنه بقي في العموميات في ما يتعلق بالتفاصيل الأخرى. وقدم التوجه النموذجي لإدارة أوباما الذي يقضي بأن الروس لا يحققون نجاحات في سوريا، وسيجدون أنفسهم غارقين في التكاليف المرتفعة بينما تتلاشى علاقاتهم مع العالم العربي. وفي هذه النقطة، واجهه العديد من الحضور عندما اتهموه بـ”التعاقد من الباطن” مع الروس على القيام بوظيفة الولايات المتحدة في سوريا (في الاعتقاد بأن إعياء القتال سيجبر الروس على التنازل بشأن مصير الأسد). العينة الواردة أعلاه عن تقييم فيينا من قبل لاعبين رئيسيين تبين حجم الصعوبات، ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، بدأت مهمة أخرى تتمثل بتحديد ممثلي المعارضة والمشاركين السوريين، وهنا يكمن فخ آخر تنصبه موسكو في التصنيفات بين إرهابيين ومتطرفين ومعتدلين. وكل هذا التجاذب تحسمه موازين القوى على الأرض وهذا ما لا تتنبه له الإدارة الأميركية الحالية.
ومن الأمثلة التاريخية ما جرى في حروب البلقان أواخر القرن الماضي حينما أقنع الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هولبروك، الرئيس الأسبق بيل كلينتون بتسليح كرواتيا ودعم قصف الناتو للقوات الصربية في البوسنة، مما غير في ميزان القوى وألزم الصرب بالمجيء إلى دايتون مع استخلاص الدرس بوجوب التفاوض بعد تساوي ميزان القوى.
مقابل أوباما المتردد، يبني بوتين حساباته على استثمار تدخله في سوريا عبر نتائج مسار فيينا. وربما يعتقد البعض أن اتفاقية لافروف – كيري على الأبواب كي تكون بمثابة اتفاقية سايكس بيكو جديدة. لكن ليالي الأنس في فيينا يقابلها استمرار التفجيرات في بركان الشرق الأوسط، وعلى الأقل في المدى المنظور يتوقف مسار فيينا على مكاسب أو نكسات التدخل الروسي في الميدان.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب