هذا المقال ضمن سلسلة مقالات في نقد الثورة السورية
تتنامى في الشهور الاخيرة شعبية المصطلحات الطائفية –الامر الذي كان يتحاشاه كل السوريين المعارضين للنظام ابتداء من المستويات الشعبية وصولا الى المثقفين – وصار من الطبيعي ان تسمع كلمة “نظام علوي” ” سنة” “علويين” بعد ان كان هذا البعض يستخدم عبارة “الطائفة الكريمة ” كناية عن العلويين.
تنامي استخدام هذه المصطلحات بشكل يومي وتلقائي يعود إلى تنامي قناعة البعض بأن الصراع في سورية هو صراع مذهبي في اساسه، وتنامي هذه القناعة في تفسير الحاضر بخلفيات دينية او مذهبية يرجع الى غياب اجتهاد نظري وفكري عند المفكرين السوريين المنتمين للثورة في تفسير الثورة وفق اسس علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة …
التفسير المذهبي الطائفي للثورة وللواقع والتاريخ السياسي السوري المعاصر رغم سلبيته غير أنه يكشف عن مسألة مهمة، قليلاً ما كانت ممكنة في سورية الصمت والعبودية المقنعة، ألا وهي مسألة التعبير الصريح عن التفكير والشعور، وهي مسألة على غاية من الخطورة بالنسبة للسوريين – نقصد بها المصطلحات الطائفية – رغم انها تعبير عن شكل متخلف من تفسير الواقع والتاريخ، غير انها تعبير عن بداية عهد جديد من تاريخ السوريين ايضاً، تاريخ الشفافية والقطع مع عالم الازدواجية والتكاذب الاجتماعي …
ليس قليلاً ابداً ان تعبّر بصراحة وصدق عمّا يجول في خاطرك وباطنك، التعبير الحر عملية تحرير ايضاً، بهذا نكون امام ثورة في مستوى اعمق، هي من بركات الثورة السياسية … ثورة في مستوى النفس والنطق أوالتعبير الصادق عمّا نفكر به.
-2-
خلفية اسلامية لتاويل الثورة: السنة ضد الحكم العلوي:
نقد الثورة لابد ان يستند إلى نقد للتاريخ السوري المعاصر وقبله نقد للتاريخ الاسلامي فيما يتعلق بموضوعة الصراع على السلطة وانقسام المسلمين بسبب ذلك الى حزبين شيعي وسني، انقسام عميق تحول بعد الانقسام السياسي الى انقسام ديني ثقافي اجتماعي، وكلا الحزبين ينكر على الآخر صفة الاسلام ويتهمه بالخروج عن قواعد الاسلام الصحيح.
عند كل محطة تاريخية هامة كان يبرز هذا الشرخ بين المسلمين، وصولا الى الوقت الحاضر. بالنسبة للوضع السوري هناك من السوريين على سيل المثال هناك من يفسر الصراع السياسي في سورية على خلفيات تاريخية اسلامية بعيدة، بحيث يعيد حكم الاسد وآله أربعين عاما ويزيد الى انتقام احد حزبي المسلمين من الآخر، انتقام الشيعة من السنة او انتقام العلويين بدعم شيعي من السنة، وعلى هذا المنوال وبهذه الخلفية الاسلامية يتم تفسير الثورة السورية على انها تمرّد السنة على حكم العلويين ؟
لاشك ان القاعدة العلمية التي تقول انه لاشيء يفنى في الطبيعة بل يتحوّل الى شكل آخر – صحيحة بنظر الفيزياء على الاقل – هي قاعدة تثبت صحتها في تفسير النفس المضطهدة السورية التي تتخذ مواقفها السياسية الراهنة بناء على الانقسام السياسي الديني الثقافي في الاسلام، وتفسر كل شيء بمنظور الخلاف والصراع البنيوي الشيعي السني …
-3-
تاريخنا بدأ من لحظة الخلاف على الخلافة:
هنا نتساءل هل جاء الوقت المناسب كي نعيد التنقيب في حفريات العقل السياسي الاسلامي باحثين فيه عن كل العلل الاجتماعية والنفسية المعيقة لتقدم المسلمين والعرب ؟
لاشك ان الوقت سيكون مناسبا للنقد على الدوام، لاسيما إن كان النقد بمثابة مبضع جراحي لجسد وصل مرضه الى درجة تهدد الجسد كله بالموت، إن الخلاص من المرض يبدأ بالتشخيص الصحيح للمرض مهما كان التشخيص مخيفا وقاسيا، لهذا فالتشخيص لا يتوقف على المعرفة فحسب بل يتوقف على الشجاعة ايضاً. فلطالما كان هناك من يملكون معرفة التشخيص ويقعون على العلل لكنهم لم يملكوا الجرأة على اعلان التشخيص، وبالتالي منعوا انفسهم وامتهم من اقتراح العلاج لأمراضها.
دون إطالة سنقول مباشرة ان المرض الاول للعقل السياسي والاجتماعي الاسلامي ومن ثم العربي الاسلامي بدأت من مسألة النزاع على السلطة بعد وفاة الرسول محمد(ص) ومن هذه المسألة ومنذ ذلك التاريخ نشأ وتفرع كل تاريخ الاسلام والعقل السياسي والفقهي والاجتماعي والنفسي الاسلامي العربي … كان النزاع على استلام السلطة بعد الرسول محمد بين عدة اطراف، اهمها طرفين هما اقرباؤه (ابن عمه علي ومن معه) ومن ناحية اخرى اصدقاء الرسول مع وجهاء وحكام ذلك الزمان والمكان (اي ابو بكر وعمر ومن معهم ) .
وبغضّ النظر عن أحقية اي طرف في استلام السلطة فقد ادى النزاع بين الطرفين الى شرخ عمودي وافقي في المجتمع العربي الاسلامي لكن هذا الشرخ اثمر كل الاختلافات والتنوعات الفقهية والتفسيرية ابتداء من تفسير القرآن وانتهاء بالنحو والاعراب … ومابينهما من صحيح الاحاديث وضعيفها، بل شمل ذلك المباحات والمكروهات … كل ذلك كان بسبب ونتيجة محاولة كل فريق من الفريقين ايجاد الدلائل والعلل على صحة موقفه السياسي من مسألة الخلافة ….
-4-
الانشقاق العلوي عن الشيعة:
تكرست هذه اللحظة الخلافية في وعي ووجدان وتكوين ومستقبل وتاريخ كل مسلم عربي وانتهت بعد قرن او اكثر الى تكوّن جماعات سياسية تحولت الى جماعات مغلقة تحاربت مع بعضها، كان من هؤلاء العلويون والدروز والاسماعيليون … هذه الجماعات هي اولى حالات الانشقاق عن الجماعة الاسلامية الشيعية الاثني عشرية، وكان هذا المصطلح الاخير- الشيعة- اسم لمذهب ظهر بعد القرن الثاني للهجرة لكن الجماعة التي عرفت بهذا الاسم وجدت في الحقيقة قبل قرنين من ظهوره.
ولم يكن الشيعة على عداء مع السنة بداية بل كان كلاهما في حلف سياسي مذهبي واحد ضد الحلف الاموي الملكي الذي ورث الحكم واحاله ملكاً عضوضاً … كان الشيعة حاملي السيف المقاتلين للحكم الاموي وكان السنّة حاملي العلم حافظي السنة النبوية المقاتلين علما وحجة وفكرا ضد الحكم الاموي …
-5-
الصراع العلوي مع السلطة الحاكمة واللجوء الى الجبال:
لجأ العلويون الى الجبال هاربين اليها من ملاحقة عساكر النظام العباسي وجرائمه بحق كل متمرد على السلطة، وبعد ان ذهبت الدول العباسية المتعاقبة وانقرضت، بقي العلويون في جبالهم لا يتجرأون على النزول الى المدن والحواضر، وجاءت انظمة حكم اسلامية جديدة وصولا الى الدولة العثمانية.
كانت معظم الدول الاسلامية تحاول اخضاع هؤلاء العلويين، لذلك بقي هؤلاء على إهبة الاستعداد للقتال، هكذا بدى العلويون في الجبال مقاتلين وتحولت نفسية المقاتل والحرب الى جزء اصيل من تكوينهم النفسي والاجتماعي فظهرت في ادبياتهم، وفي زمن ما، وبعد عزلة طويلة في الجبال بعيدا عن المدن والحواضر، وبعد ان اطمأن هؤلاء العلويون الى حياتهم الجديدة مع الطبيعة تراجعت النزعة القتالية من حياتهم فأصبحوا اكثر استسلاما للطبيعة وحياة الرعي والفلاحة، هكذا تحولوا الى فلاحين يعتمدون كلياً على الطبيعة بعيدا عن التفكير بسلطة او جاه او مال …
وفي وقت ما حينما ضعفت نزعة القتال في تكوين ونفسية العلويين تعرضوا لهزائم متفرقة وكانت بعض هزائمهم العسكرية امام خصومهم او اعدائهم المحليين او الخارجيين قد انتهت بمذابح فردية او جماعية، لكن هذه المذابح تحولت الى ذكريات أليمة قوية اصبحت جزءا من مركبهم النفسي والذهني، لقد أنتج خوف الماضي القلق من المستقبل، هكذا تمّ تضخيم فكرة المجزرة في الادبيات التي انتجها العلويون عبر تاريخهم، ادبياتهم الفكرية الدينية اوالادبية الفنية ….
الوجدان العلوي:
رغم كل ذلك هناك مسألتين بقيتا فاعلتين في وجدان العلوي، المسألة الاولى شعور المظلومية المرتبط بما نتج عن النزاع على الخلافة، فهم يعتبرون ان تفضيل ابو بكر وعمر على علي هو ظلم يخالف العدل، المسألة الثانية ربط هذا الظلم السابق الذي يشعر العلوي انه مستمر بسبب ارتباطه باضطهاد لاحق تمثل في حرمانهم من السلطة بسبب موالاتهم السياسية لآل البيت ومن ملاحقتهم بسبب موقفهم السياسي المناهض للسلطة الحاكمة وتكرّس بعد خسارتهم لمعارك او حرب في مواجهة السلطة او حلفائها انتهت بمجازر او خسائر بشرية كبيرة.
هكذا اصبح تاريخ وحاضر العلوي ممزوجاً بشعور الخسارة او الهزيمة، وصار المستقبل مقلقاً وغامضاً كما هو الحاضر، بحيث يمكن وصف تاريخ العلوي بتاريخ الخيبة، ولم يكن حاضره افضل من ذلك . لكن بقي حلم استعادة حقهم الضائع بالخلافة حلم ضئيل كثقب ابرة في جدار اسود.
-6-
عودة الروح:
كانت اصلاحات ضياء باشا الوالي العثماني اواسط القرن التاسع عشر بداية عودة الروح الى الجبل، رغم ان هذه الاصلاحات اقتصرت على التعليم وبناء بعض المساجد، لكنها من جهة اخرى كانت اول التفاتة انسانية من العالم البشري لهؤلاء المنسيين في الجبال منذ ما يزيد عن سبعة قرون …
وإذا كانت اصلاحات ضياء باشا تمثل عودة الروح فإن ثورة الشيخ صالح العلي مثلت انتفاضة الجسد من رقدة العدم وسريان الدم فيه وعودة شاملة للحياة، وكانت ولادة الاحزاب الاممية والقومية بمثابة تاريخ جديد للعلويين للعودة الى الحياة السياسية ومن ثم الحياة الاجتماعية والاقتصادية لأول مرة في تاريخهم بعد ان خرجوا منها قبل ما يقرب من الف عام …
-7-
استعادة العلويين للحق الضائع : الحكم !!
هكذا عاد العلويون الى الحياة بقوة فكان لابد لهم ان يعوّضوا كل هذا الحرمان التاريخي والشعور بالمظلومية وغياب العدالة والعزلة، عادوا بقوة ولأن كل فعل له ردة فعل تساويه في الحجم والقوة، كانت عودتهم الى الحياة بفاعلية وحيوية كمن يريد تعويض حرمانه من السلطة والقوة، لذلك عادوا الى ما يضمن لهم القوة والكرامة المفقودة، فدخلوا الجيش بكثافة، كان هناك عوامل ساعدتهم على ذلك بينها تشجيع اكرم الحوراني لدخول ابناء الريف والفقراء الى الجيش لتحويله الى جيش الحزب(حزب البعث)، كما ان ابناء المدن الكبرى على الخصوص لم يكونوا يحبذون العمل في الدولة لذلك ابتعدوا عن الجيش والوظائف الحكومية لأن التجارة والصناعة والمهن كانت تدر لهم مالاً اكثر، إضافة لكونها جزء اصيل من حياة المدينة، واعمال موروثة ابا عن جد …
لكن العلويين حين جاؤا ليستعيدوا حقهم السياسي والانساني المضيّع طوال قرون لم يجدوا العثمانيين ولا المماليك ولا العباسيين ولا الامويين ولا ابو بكر ولا عمر، لقد وجدوا سوريين فمن اين يأخذون حقهم إذاً ؟
مع بداية المد الشيوعي ومن بعده القومي كان السوريون إما عربا (وفق الفكر القومي العربي) او طبقات فقيرة (الفكر الماركسي) او سوريون يعملون للنهضة (الفكر القومي السوري)، لذلك لم يكن هناك خوف من هؤلاء الجبليين القادمين وقد رموا للتو معاولهم وتركوا قطعان ماعزهم.
مع تنامي السيطرة الريفية البعثية على حكم سورية وسياستها تنامى الخوف، وحين وصل صراع الاسد- جديد الى اوجه في انقلاب تشرين الثاني 1970 بدأ الخوف السوري واضحاً “من العلويين” ولأن كان خوف الاقليات من الاكثرية مبرراً بمعان كثيرة اقلها المعنى الوجودي، فإن خوف الاكثرية في سورية من الاقلية لم يكن مبرراً إلا من حيث تراجع نسبة السيطرة الاقتصادية للاكثرية مقابل الاقلية، لقد بدأ الخوف الطائفي واستيقظت كل مشاعر وادبيات الصراع القديم بين السنة والعلويين … استيقظ عند السنة مشاعر القلق والخوف من الانتقام العلوي واستيقظ عن العلويين مشاهد الاضطهاد السني للعلويين …
بوصول الاسد مع مجموعته الى السلطة استيقظت عند خصومه مرجعية التاريخ والصراع الاسلامي القديم، لقد سموهم “علويين” وبدأ الخوف، العلويون من ناحيتهم لم يرو السوريين كسوريين بل رؤهم كسنّة، كانت رؤية متبادلة مستندة الى الماضي القديم الذي مازال حياً في العقول والنفوس ولم تفلح حوادث الحاضر واحزاب البعث والقومي والشيوعي في تغييرها كثيراً.
لقد عرّف كل من الفريقين القديمين صاحبه وفق التعريف القديم الذي بدى وكأنه ازلي، سني – علوي، علوي – سني.
قلق الاكثرية اصبح مبرراً بعد سنتين من الثورة السورية لقد اصبح خوف الاكثرية له مبرراً وجودياً هذه المرة،
من هنا بدا وصول الريفيين الى السلطة في سورية كتصفية حساب تاريخية عند البعض الذين يريدون إظهار الثورة السورية كتصفية حساب معاكس ؟؟؟ فما فعله السنة بالعلويين طوال الف عام يفعله العلويين بالسنة هذه المرة، انقلبت الآية وصارت الضحية جلادا والجلاد ضحية ؟؟
كل حدث تاريخي مبرر تاريخياً فقط :
كل حدث تاريخي مبرر تاريخيا وإن لم يبرر اخلاقياً، هكذا كان مبرراً تاريخياً استلام ابو بكر للخلافة بعد وفاة الرسول محمد(ص) وكان مبررا تاريخيا انشقاق العلويين عن الشيعة الاثني عشرية كما ان الاضطهاد العباسي للعلويين مبرر تاريخيا لكنه غير مبرر اخلاقياً وعودة العلويين الى حكم سورية مبرر تاريخياً لكنه غير مبرر سياسياً وديمقراطياً، كما ان الثورة على النظام الذي يسميه الكثيرون نظام الاسد او “الحكم العلوي” مبرر تاريخيا وسياسيا واقتصاديا …. وفيما يبدو أن كل شيء في التاريخ له اسبابه فعلينا ان نفتش عن المبررات التاريخية إذاً كي نفهم اللحظة، تلك التي عمرها مئات السنين او تلك التي عمرها عشرات السنين او اللحظة التي نعيشها الآن.
ان نفهم الاسباب هو ما يجعلنا نقبل بالنتائج، ويجعلنا من ثمّ نستعد بوعي لتقبل ما يأتي به المستقبل .