يوان بانتشيو يضيء شمعة أثناء وقوفه أمام النصب التذكاري لزوجته، إحدى ضحايا الثورة الرومانية، في تيميشوارا 15 كانون الأول/ديسمبر 2019
لا تزال صور مقبرة تيميشوارا، المدينة التي شهدت انطلاق الثورة الرومانية في كانون الأول/ديسمبر 1989، ماثلة في الذاكرة لكونها تمثّل خدعة “المقبرة الجماعية المزيفة”، وتعدّ نموذجا رئيسيا للتضخيم الإعلامي قبل ثلاثين عاما من حلول زمن الأخبار المزيفة ووسائل التواصل الاجتماعي.
فعشية عيد ميلاد ذاك العام، وبينما كان الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو قد أوقف بعد أسبوع من التظاهرات، اكتشف الرأي العام الغربي الصور الآتية لجثث، بعضها مشوّه، ونُسبت المسؤولية عنها إلى الإعدامات التي نفذها البوليس السياسي الروماني.
لفّت الصور القنوات وتصدّرت الصحف الأجنبية التي كان مراسلوها قد وصلوا بالعشرات إلى رومانيا المنغلقة على العالم حتى ذلك الوقت.
وفي مقبرة تيميشوارا اكتشفوا تلك الجثث والرفات المصفوفة على الأرض، وقدّمت على أنّها دليل على القمع الدامي الذي ووجهت به الانتفاضة على النظام.
أسفرت الثورة الرومانية عن مقتل ألف شخص في البلاد، بينهم نحو مئة في تيميشوارا. ولكن في نهاية 1989، تداولت الصحافة الأجنبية التي أشارت إلى وجود عدة مقابر جماعية، رقم 4,630 قتيلا في تيميشوارا وحدها.
ويتوجب الانتظار حتى شهر كانون الثاني/يناير لكي تتحدد الحصيلة: الجثث كانت تعود إلى أشخاص توفوا قبل وقوع الأحداث، وقد جرى إخراجهم من القبور.
-“البحث في كل مكان”-
هل كان الأمر مدبرا لإرباك نظام تشاوتشيسكو أو عملية استخراج جثث قام بها رومانيون بحثا عن مخفيين؟
يرجّح روميو بالان الذي كان يشغل منصب المدعي العام في تيميشوارا في كانون الأول/ديسمبر 1989، السيناريو الثاني. ومنذ 22 كانون الأول/ديسمبر عمل قضاة وأطباء شرعيون رومانيون على التحقق من جثث المقبرة، وتثبتوا أنّ الوفاة حصلت قبل الانتفاضة، وفق ما يوضح بالان لفرانس برس.
ويلفت إلى أنّ ذلك “لم يجدِ نفعاً، فالناس واصلوا الحفر في أماكن أخرى”.
من جانبه، يروي يوان بانتشيو، أحد سكان تيميشوارا لفرانس برس، أنّ الناس “كانوا يجهلون مكان وجود موتاهم، كانوا يبحثون في كل مكان، في أماكن كان يعتقد أنّها تحوي مقابر جماعية”.
وكانت زوجة يوان قد تعرضت لإطلاق نار أثناء تظاهرة في تيميشوارا في 17 كانون الأول/ديسمبر. توفيت بين يديه في الطريق إلى المستشفى. وعندما عاد إلى المستشفى في ما بعد، كانت الجثة قد اختفت.
بعد أسبوعين من ذلك، اكتشف الرجل الذي يعمل مدرب كرة قدم، أنّ جثة زوجته وجثث نحو أربعين آخرين أخرجت من المشرحة وأحرقت في بوخارست من قبل النظام الذي كان يريد محو آثار مجزرة. وهذه قصة حقيقية.
-“حنفية الصور”-
في ظل الارتباك والاضطراب النفسي اللذين كانا سائدين، ركب المراسلون الصحافيون “قطار الشائعات”، كما يقول الصحافي ميشال كاتكس الذي غطى الثورة الرومانية لفرانس برس، في بوخارست.
وفي 24 كانون الأول/ديسمبر، تناول خبر لفرانس برس أعدّ في تيميشوارا “الفظائع” في “المقبرة الجماعية”. وكان المتحدثون الرومانيون يعيدون سبب الموت إلى “متشددي البوليس السياسي”، مشيرين إلى حصول “تشويهات عبثية”.
ويقول الأكاديمي المتخصص في تاريخ وسائل الإعلام كريستيان دلبورت، إنّ “الثورة الرومانية هي أيضاً خيال جماعي (…) كنا ننتظر تلك الصور لأنّ تشاوتشيسكو كان ديكتاتورا دمويا”.
من جانبه، يعتبر ميشال كاستكس أنّه “حين نريد تصديق شيئ، سنجد كل الأسباب للتصديق، فضلا عن أنّ الطابع الوحشي لعائلة تشاوتشيسكو ساهم في تغذية فكرة أنّ كل شيء ممكن”.
منذ 29 كانون الأول/ديسمبر، كان صحافيو فرانس برس يشيرون إلى أنّ حصيلة 70 الف قتيل في كل أنحاء رومانيا مبالغ بها جداً على الأرجح، مشددين على مناخ من البلبلة. ولم تتضح حقيقة المقبرة الجماعية سوى في نهاية كانون الثاني/يناير.
ولعبت عوامل البحث عن السبق الصحافي والقصص الهائلة، إضافة إلى ضغط المنافسة، دورا في ما وصفته منظمة مراسلون بلا حدود على أنّه “واحدة من أكبر خدع التاريخ الإعلامي الحديث”. وأضر ما جرى بمصداقية وسائل الإعلام على المدى الطويل.
ويقول كريستيان دلبورت “كانت المرة الألى التي نحصل فيها على صور مباشرة لثورة في شرق أوروبا، وكانت الصورة تعدّ دليلاً” برغم غياب الخلفية والسياق.
ويضيف “اليوم نحذر كثيرا من تدفق الصور. في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نتخيل حصول +تدقيق (سريع) في الحقائق+”.