هل مشكلتنا في النظام أم في من يعطل هذا النظام؟ هل مشكلة هذه الحكومة في أدائها، أم في منعها من أي أداء أصلا؟
لم تصدق الطبقة السياسية اللبنانية أن لصبر الشعب اللبناني حدوداً. فاعتمدت على “لامبالاته” وخنوعه واستمرت في سياسات تقاسم الفساد مع السلطة، ذلك أن الانقسام العمودي الحاصل منذ العام 2006 وما جلبه من استحقاقات طمأن الطبقة السياسية إلى قدرتها على الإمساك بالشعب المنقسم سياسياً على أساس طائفي ومذهبي.
لقد صبر الشعب اللبناني على العتمة والتجويع والعطش والديون المتراكمة والبطالة والاستتباع، إلى أن سمموا حتى الهواء الذي يتنفسه. ربما ما يحصل حاليا قد يكون القشة التي قد تؤدي إلى قصم ظهر الطبقة السياسية التي تعاملت مع حاجات الشعب اللبناني باستهتارها المعتاد، هذا في حال كانت حركة مواطنية مستقلة حقاً.
تم إقفال مطمر الجية فجأة، فطفحت النفايات مع أن الحكومة كانت على علم مسبق بهذا التهديد دون أن تهتم بإيجاد حل، وطمرت بها لبنان من أجل “حفظ الحق” بالمحاصصات. ما أدّى إلى ثورة المجتمع المدني (مبدئياً وحتى إشعار آخر).
الملفت، أننا وبعد أن اعتدنا على مظاهرات/نزهات تقوم بها جماعات تابعة لأحزاب طائفية فاعلة، فتقوم بما تريده من أنواع عنف وترفع شعارات مستفزة تجعل من رئيس الحكومة السني المعتدل مرادفاً لداعش، مع ذلك تتمتع بحماية الأجهزة الأمنية. فوجئنا يوم الأربعاء 19 أغسطس وما تلاه بالرد العنيف لأجهزة الأمن من تسليط خراطيم مياه وهراوات ورصاص تجاه الجمهور، شديد التنوع، المتظاهر لمطالب مبدئية محقة بعد أن تفاقمت الأزمات المتراكمة التي طالت كافة أوجه الحياة.
مساء الأحد انفلت الأمن مجددا من قبل قوى الأمر الواقع وميليشياتها، على ما أشيع، على غرار سياسة الأنظمة العربية التي طالما استخدمت ذريعة الأمن كي تحافظ على هيمنتها. فالتخويف هو الأداة المثلى للسيطرة وآخرها التخويف من الربيع العربي وجعله شتاء قارسا وجالبا للإرهاب. هناك احتمالان لما جرى: محاولة لجرّ التحرك الذي بدأه المجتمع المدني إلى ساحة العنف والمذهبية والطائفية من أجل إجهاضه. أو أن التحرك، غير موحد الأهداف، كان أصلاً من أجل القضاء على آخر مؤسسة شرعية لإحلال الفوضى ووضع اليد على البلد بالكامل من قبل القوة المهيمنة الفعلية باسم المقاومة.
فمن غير الواضح هل أن تغيير النظام وإسقاط الحكومة هو المطلب الأساسي للحركة المطلبية أم أنه نتج عن العنف الذي جوبهت به؟ هذا ولم تتنصل هذه الحركة من “المندسين” الذين حوّلوا ساحة رياض الصلح أمس إلى ساحة معركة حقيقية فيما انسحب المدنيون. مع الإشارة إلى أن المعلومات السارية تشير إلى مسؤولية ميليشيا أمل عن الانفلات والعنف الحاصلين مساء الأحد، فيما يهاجم رئيسها من حليف حزب الله الصامت أمام ما يجري.
في جميع الأحوال لا تشكل الشعارات الغائمة وتعميم المسؤولية مدخلاً لحلول ممكنة بل تزيد مخاطر الانفلات التام. فماذا يعني شعار إسقاط النظام؟ أليس نظاما ليبراليا ديمقراطيا؟ هناك مشكلة في تطبيقه نعم، لكن إسقاطه ليس سوى وصفة لتمكين الاستبداد المذهبي والتسليم لإيران في ظل الوضع الراهن، فحزب الله هو الجهة الوحيدة القادرة على وضع اليد على السلطة، كما اتضح أنه مطلب بعض الصحف القريبة من هذا المحور.
لكن على هامش ما يجري، هناك نمطان من الاستجابة على مختلف مظاهر الاحتجاج خارج الاصطفاف الطائفي في الدول التي تهيمن طهران على عواصمها بحسب مسؤوليها: قمع التحركات باستخدام العنف الرسمي من قبل عناصر “من الأجهزة الأمنية الرسمية”، أو بالعنف الأهلي عبر تفخيخ التحرك وجرّه إلى العنف عبر الشعارات المذهبية والدينية لحرف الاحتجاج عن طريقه. وغالبا ما تنفلت الأمور ويتم إجهاض التحرك ما يعيد الأمور إلى سابق عهدها ويدخل اليأس قلب الجمهور المطالب بالتغيير الحقيقي. من الواضح أنه أسلوب المواجهة المفضّل في وجه التغيير حتى الآن من أنظمة الاستبداد ومن الميليشيات المذهبية والقوى السياسية الطائفية التي تحميها. هذا ما حصل في العراق وفي لبنان وفي سوريا سابقا.
لدينا نقاط تشابه ونقاط اختلاف مع التحرك في العراق. في الحالتين نلاحظ اللجوء إلى خطة العمل الجاهزة التي ذكرناها. ومع أن السلطة في العراق هي سلطة طائفية مستبدة وفاسدة، لكن مرجعيتها واضحة وواحدة: إيران بدعم من الأميركيين. وبالتالي استهداف هذه الطبقة يعني استهداف إيران أيضا، من هنا وحدة الوسيلة والغاية: محاكمة الفاسدين و“إيران برّا”.
الوضع في لبنان أكثر تعقيدا وتركيبا بسبب النظام الطائفي القائم منذ أن تركزت الدولة الوطنية، ومنذ أن وضع دستورها الذي يضمن مشاركة جميع الطوائف والمكونات المتعددة المكونة للبنان في تقاسم السلطة. أدت الممارسة السياسية في ظل التطورات المختلفة في لبنان والمنطقة، إلى نظام طائفي يزداد شراسة وتمكنا وفسادا يتم فيه تقاسم الحصص علنا.
أضيفت إلى ذلك مؤخرا التبعية التامة المكشوفة للخارج. مع وجوب التمييز بين “خَارجَيْن من طبيعتين مختلفتين” تماماً؛ لجهة أن أحدهما يتكون من مكون عربي مهما كانت صفة “المذهبية أو الرجعية” التي تلصق به. وهو يريد نفوذا في لبنان بالطبع، لكن ليس الهيمنة ولا القضاء على الكيان. ونقصد هنا السعودية. المكوّن الآخر هو خارج ديني مستبد، ولكنه معاد قوميا وجذور عدائه تاريخية تجاه كل ما هو عربي، ولقد أعلن ذلك بنفسه مؤخرا وبوضوح تام. ونقصد هنا النفوذ الإيراني المهيمن، حالياً، في لبنان عبر وكيله المحلي حزب الله، المكوّن الوطني اللبناني العربي، بواسطة مساعدته على تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، وعبر المتاجرة بالقضية الفلسطينية وشعار “تحرير القدس”، التي تبين أن طريقها يمرّ بهدم سوريا. عزّز هذه الخطة إخلاء الساحة له من المكوّن العربي.
لكن ما كان لحزب الله أن يضع يده على لبنان دون تواطؤ الطبقة السياسية اللبنانية المطيّفة والتي يهمها الحفاظ على مكاسبها المادية ومحاصصاتها بقدر زعمها الحفاظ على السيادة. ومن هنا نعاين عجزها عن الوقوف ضد مشاريع إيران، عبر حزب الله، بسبب ضعفها تجاه مكاسبها الضيقة. ما أفسح المجال للحزب لجرّ لبنان إلى المأزق الراهن حيث المؤسسات معطلة ويُمنع انتخاب رئيس، ويتم الآن جرّ البلد إلى الفراغ التام مع شعار إسقاط النظام وحلّ مجلس النواب والبلبلة الحاصلة في حرف مسار التحرك السلمي البيئي الذي عبّر عن وجع الجمهور العريض.
من هنا مأزق أي تحرك لا يقوم بتوضيح هذه الإشكالية لنفسه أولاً قبل وضع أولويات تحركه وتفصيلها.
وكي لا تهتز ثقتنا بنزاهة تحرك ومقاصد المجتمع المدني، وكي لا ينجح التحرك المضاد بإجهاض الانتفاضة المدنية وترهيبها، المطلوب علاجان؛ واحد آني وموضعي يسمح للمريض بالاستمرار في الحياة بانتظار العلاج الجذري، أي البدء بمتابعة إيجاد حل جذري للنفايات خارج دائرة الفساد. وآخر طويل الأمد يواجه أساس التدهور والانسداد الحاصل، فيسأل المعترضون أنفسهم، قبل مطلب حل المجلس النيابي وإسقاط النظام التي بدت أقرب إلى ما كان يسمى “البيان رقم واحد”، وإذا لم تكن الفوضى التامة غاية التحرك، هذه بعض الأسئلة برسم القيمين عليه: هل مشكلتنا في النظام أم في من يعطّل هذا النظام؟ هل مشكلة هذه الحكومة في أدائها، أم في منعها من أي أداء أصلاً؟ ثم من منع، ويمنعُ، انتخاب رئيس للجمهورية قبل إدانة النظام والشكوى من عدم تطبيق الدستور؟
الخوف من أن هناك من يرهب المجتمع اللبناني ويضعه على حافة حرب أهلية كي يجعله يقبل بأي حكم ولو كان عسكريا، أو الخضوع للاستبداد المذهبي كتغطية على الهيمنة الأجنبية القادمة من طهران.
monafayad@hotmail.com
كاتبة لبنانية
“العرب” اللندنية