من يرى حجم الخراب الذي خلفه في وسط بيروت من اسموا نفسهم “متظاهرين سلميين وحضاريين”، يدرك أن القضية كانت اكبر بكثير من قضية نفايات في حاجة إلى من يهتمّ بإزالتها.
بدا واضحا لحظة بدأ متظاهرون، هم في واقع الحال ميليشيا حزبية، يطلقون شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” أن التحرك الشعبي في وسط بيروت خرج من يد منظميه الذين رفعوا، في الأصل، شعار “طلعت ريحتكم”. الحقيقة أن الرائحة التي فاحت مساء الأحد الماضي في بيروت كانت رائحة الحقد على رفيق الحريري ورائحة الغرائز المذهبية والتعصّب المذهبي الأعمى الذي اراد القضاء على ثقافة الحياة في لبنان ونشر ثقافة الموت بديلا منها.
ما شهدناه كان حلقة اخرى من حلقات محاولة انقلابية تستهدف لبنان لا اكثر ولا أقلّ. هدف الحلقة الجديدة اسقاط الحكومة التي يرئسها تمام سلام. كان مطلوبا أن يكون الفراغ سيّد الموقف لا اكثر.
لذلك، تنبه زعماء سياسيون، يؤمنون بلبنان، على رأسهم الرئيس سعد الحريري، لهذا الوضع عندما اعلنوا التمسّك بالحكومة. قال سعد الحريري بالحرف الواحد “ان الإعتراض على مشكلة النفايات والمطالبة بحلها بسرعة شيء، والمطالبة باسقاط الحكومة شيء آخر. إن اسقاط الحكومة يعني اسقاط آخر معقل شرعي ودخول لبنان في المجهول”. كان مطلوبا بالفعل دخول لبنان في المجهول. وهذا ما اشار إليه الدكتور سمير جعجع الذي سارع إلى التحذير من استقالة تمام سلام ومما يمكن ان يترتب على الإستقالة. أيّد جعجع مطالب المتظاهرين، لكنّه حذّر من أن الوقت ليس وقت أخذ البلد إلى “الإنتحار”… كما يريد “حزب الله” والذين يحرّكونه.
صحيح أن المطالب التي رفعها المتظاهرون محقّة، في مقدّمها، المطالبة بحلّ أزمة النفايات، لكن مشكلة النفايات تظلّ فرعا من المشكلة الأساسية التي يعاني منها لبنان وفي اساسها سلاح “حزب الله” غير الشرعي الذي لا هدف له سوى تأكيد أن لبنان مستعمرة ايرانية. سلاح “حزب الله” سلاح مذهبي. هذا واقع. ليس صدفة أنّه يلعب دوره في تعطيل الحياة السياسية في لبنان ونشر البؤس في البلد.
لا شكّ أنّه كان على الحكومة عدم ترك ازمة النفايات تتفاعل. لكنّ ما كان ضروريا هو جعل اللبنانيين يستوعبون أنّ سلاح “حزب الله” في اساس كلّ مشكلة في لبنان. هذا السلاح، الذي ورث السلاح الفلسطيني، يمنع الإقدام على أي خطوة في الإتجاه الصحيح. يمنع انتخاب رئيس للجمهورية ويمنع قوى الأمن من ممارسة دورها على كلّ الأراضي اللبنانية، بما في ذلك في وسط بيروت حيث لم يكن مطلوبا التظاهر من أجل التخلص من مشكلة النفايات بمقدار ما أنّه كان مطلوبا رفع شعارات مذهبية والتعرّض للشهيد رفيق الحريري، رمز ثقافة الحياة واعادة لبنان وعاصمته إلى خريطة المنطقة.
مرّة أخرى، لا يمكن إلّا التضامن مع مطالب المتظاهرين، كما كانت عليه في بداية التحرّك. ولكن عندما بدأ تحطيم المحلات والإعتداء على املاك المواطنين، تبيّن أن وراء الأكمة ما وراءها. تبيّن أن هناك من يريد اسقاط الحكومة من أجل غاية محددة. هذه الغاية واضحة كلّ الوضوح وهي تتمثّل في أن السلم الأهلي في لبنان تحت رحمة “حزب الله” الذي يستطيع الإمساك بادواته المسيحية وغير المسيحية واطلاقها أو كبحها ساعة يشاء.
الملفت وسط كلّ ما حدث مسارعة النظام السوري إلى “ادانة” ما تعرّض له المتظاهرون معلنا الوقوف مع “المطالب المحقّة” للشعب اللبناني. ربّما كان النظام السوري يريد لوم السلطات اللبنانية على منع المتظاهرين من الوصول إلى السراي الحكومي ووضعحدّ لموجة التخريب عن طريق القنابل المسيّلة للدموع…وليس البراميل المتفجرة! يحقّ للنظام السوري ما لا يحقّ لغيره، خصوصا أنّه المستفيد الأول من الميليشيات المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية، التي تدعمه في حربه على شعبه.
صمد لبنان في مواجهة الحلقة الجديدة في الإنقلاب التي كان مطلوبا أن تبدأ باطاحة الحكومة. صمد، أقلّه موقتا، لأنّ هناك شخصيات واعية تدرك مخاطر الإنفلات في الشارع والنتائج التي يمكن ان تترتب على اسقاط حكومة تمام سلام. يدل على ذلك مبادرة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى سحب انصاره من التظاهرات.
إلى جانب الموقف المضحك للنظام السوري الذي يسعى إلى التشفي بلبنان، كان هناك ما هو أهم من ذلك بكثير.
ليس صدفة أن التصعيد في الشارع جاء في وقت لم تمض سوى ايام قليلة على زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لبيروت.
ليس صدفة أن التصعيد جاء في وقت بدأ الحديث الجدي عن نظام بديل في سوريا لا مكان فيه لبشّار الأسد، فتعود دمشق مدينة عربية تلعب دورها في اعادة لملمة الوضع السوري وتوحيد البلد، هذا إذا تبيّن أنه لم يفت بعد اوان ذلك.
ليس صدفة أن التصعيد جاء في وقت استطاع التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية كسر المشروع الحوثي الذي هو في العمق مشروع ايراني يستهدف وضع اليد على اليمن؟
لا شيء يحصل بالصدفة في لبنان. مطلوب أن لا يفلت البلد من السيطرة الإيرانية. جاءت تظاهرات الوسط التجاري لتؤكّد أن ايران تعمل ، عبر “حزب الله”، على تغيير طبيعة لبنان كبلد ومجتمع وتكريس الفراغ على كلّ المستويات من أجل فرض “المؤتمر التأسيسي” الذي يكرّس المثالثة بديلا من المناصفة. لذلك، لم يكن كلام السيد حسن نصرالله عن “المؤتمر التأسيسي” زلة لسان في أي شكل.
ما رأيناه في بيروت، في ذلك الأحد الأسود، كان حلقة من حلقات الإنقلاب الكبير المستمرّ منذ اغتيال رفيق الحريري في شباط ـ فبراير 2005، وما تلاه من اغتيالات وتفجيرات، وصولا إلى تحرّك التيار العوني في الشارع واستغلال تظاهرات “طلعت ريحتكم” للقول صراحة: “الشعب يريد اسقاط النظام”.
حسنا، سقط النظام. “حزب الله” يمنع انتخاب رئيس للجمهورية لأنه يريد اسقاط النظام. ولكن ماذا بعد ذلك؟ الثابت أنّه لن يكون في الإمكان اعادة تركيب لبنان في حال سقط النظام ولم يبق في الشارع سوى سلاح “حزب الله”، أي الميليشيا المذهبية التي ليست سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. هل في استطاعة “حزب الله” حكم لبنان زو حتّى بيروت تكرارا لتجربة الحوثيين مع صنعاء التي احتلوها في سبتمبر ـ ايلول من العام الماضي؟