ليس للسوري سوى السوري. كلّ ما تبقى مضيعة للوقت لا يفهم معناها سوى السوريين أنفسهم واولئك الذين يعرفون سوريا عن كثب والذين يدركون أن ثورة الشعب السوري لا يمكن أن تتوقّف إلّا بعد خروج بشّار الأسد من السلطة بكلّ ما يمثّله.
لا يمكن لهذه الثورة ان تتوقف لسبب في غاية البساطة. هذا السبب عائد إلى أنّ الشعب السوري كسر حاجز الخوف. كسر هذا الحاجز سرّ صمود سوريا وشعبها. كان هذا الحاجز الهزيمة الأولى بالضربة القاضية للنظام الذي اقامه حافظ الأسد والذي في اساسه زرع الخوف في سوريا وفي قلب كلّ سوري وفي قلب كلّ مكان يمكن ان تصل إليه يده.
بكسر السوريين لحاجز الخوف، لا عودة إلى خلف أيّا يكن الثمن وأيّا يكن عدد الضحايا.
هناك جيل من السوريين ثار في آذار ـ مارس 2011. هذا الجيل الشاب قال افراده لأهلهم أنّ لا مجال للتراجع ولا مجال لقبول ما قبل به الأهل من أباء وأجداد منذ وصول البعث إلى السلطة في العام 1963 ومنذ تحوّل سوريا، على مراحل، من حكم البعث المدني… إلى الحكم المحصور بمجموعة من الضباط العلويين…إلى حكم حافظ الأسد، وصولا إلى حكم العائلة والمنتفعين منها في مرحلة ما بعد توريث الأسد الأب السلطة وسوريا إلى الأسد الإبن.
كشفت الثورة السورية جهات عدّة. كشفت روسيا وكشفت ايران وكشفت تركيا. كشفت أوّلا وأخيرا إدارة باراك اوباما التي تبدو مستعدة لكلّ نوع من المساومات ارضاء لإسرائيل وايران في الوقت ذاته. إنّها إدارة تؤمن بكل بساطة بأنّ ايران واسرائيل مفتاحا المنطقة، على أن يترافق ذلك مع مراعاة لتركيا التي لا مفرّ من الإعتراف بثقلها الإقليمي.
بالنسبة إلى روسيا، تبيّن أن موسكو لا تزال في العصر السوفياتي. تعتقد أنّ الحرب الباردة مستمرّة وأن سوريا بين بيادقها في الشرق الأوسط. ليس صحيحا أن روسيا مهتمّة بميناء طرطوس. هذا كلام تجاوزه الزمن. روسيا لا تعرف شيئا عن سوريا، على الرغم من أنّها مهتمة بالغاز السوري وبانابيب النفط الآتي من الخليج الذي يمكن أن تمرّ عبر الأراضي السورية. لا تعرف روسيا، قبل أيّ شيء آخر، أن النظام السوري غير شرعي وانّه نظام أقلّوي مرفوض من شعبه. لم يبلغها بعد أنّ الشعب السوري يرفض أن يكون محكوما من عائلة علوية احتكرت كلّ شيء في سوريا وقرّرت أن يكون البلد مجرّد مزرعة لآل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش والمحيطين بتلك العائلات والدائرين في فلكها في سوريا ولبنان…
كان الرهان الدائم لروسيا، وقبل ذلك الإتحاد السوفياتي، على تكريس الضعف العربي. لذلك أخذت موسكو العرب إلى الهزيمة في العام 1967. في اساس الهزيمة، التي يعتبر جمال عبد الناصر المسؤول الأوّل عنها، النظام السوري الذي ورّط مصر في الحرب وترك الجولان يسقط في يد الإسرائيليين متذرعا بأن المهم عدم سقوط النظام “الوطني” الذي نشر البؤس في سوريا وأوصلها إلى ما وصلت إليه اليوم!
الإتحاد السوفياتي هو روسيا. وروسيا هي الإتحاد السوفياتي. لذلك، يبدو طبيعيا تمسّك موسكو ببشّار الأسد الذي أخذ على عاتقه احراق سوريا وتفتيتها والإنتهاء من السوريين عن طريق تشتيتهم وتحويلهم إلى لاجئين، حتّى داخل سوريا نفسها.
بالنسبة إلى ايران، تظلّ سوريا الجائزة الكبرى، ولكن بعد العراق ولبنان الذي تختزله طهران بـ”حزب الله” واستثمارها فيه. لا يمكن معرفة مدى تمسّك ايران بسوريا إلّا متى ادركنا أنّ خسارتها لها ستكون له نتائج كارثية على مستقبل “حزب الله”. ولذلك، نرى ايران تعمل كلّ ما تستطيع لإبقاء سوريا جرما يدور في فلكها معتمدة بشكل خاص على الميليشيات المذهبية من جهة وعلى الخطة البديلة المتمثلة في اقامة الدويلة العلوية ذات الإمتداد اللبناني من جهة أخرى.
يتبين مع مرور الوقت أن ايران لا تعرف شيئا عن سوريا، حتّى لو نجحت في شراء مساحات شاسعة من الأراضي في دمشق ومناطق أخرى، وحتّى لو استطاعت تهجير كلّ السنّة الذين يقفون في وجه مشروع الدويلة العلوية. هذا المشروع ولد ميتا، على الرغم من أنّه يلتقي مع المشروع الإسرائيلي الأصلي المتمثل في اقامة دويلات طائفية في الشرق الأوسط!
في سوريا، انكشفت تركيا وذلك على الرغم من التسهيلات التي قدّمتها، مشكورة، للاجئين السوريين. تبيّن أن رجب طيب اردوغان لا يمتلك سياسة واضحة قابلة للتطبيق ولا الوسائل اللازمة لتنفيذ هذه السياسة الطموحة التي تبقى اسيرة الفكر الإسلاموي الضيّق للرئيس التركي الذي يعتقد أنّ الإخوان المسلمين يمتلكون حلا سحريا لمشاكل المنطقة.
قال المسؤولون الأتراك كلاما كبيرا بعيد اندلاع الثورة السورية. بقي الكلام كلاما في غياب القدرة على اقامة منطقة آمنة يمكن أن يلجأ اليها السوريون وتوفير مدينة يمكن ان تقيم فيها قيادة المعارضة. على العكس من ذلك، لم تستطع تركيا لعب دور ايجابي في مجال توحيد المعارضة، خصوصا بعدما تبيّن أنّها اسيرة العقدة الكردية من جهة والفكر الإخواني من جهة أخرى…
باعت ادارة اوباما السوريين الأوهام. رسمت الخطوط الحمر التي حذرت النظام من تجاوزها. ظهر جليا أن اوباما يرى كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر. كانت نقطة التحوّل قبل سنتين بالتمام والكمال عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي في المواجهة التي يخوضها مع الشعب السوري. انقذت روسيا النظام السوري من العقاب عندما طرحت على بشّار التخلي عن ترسانته الكيميائية. لا تزال ادارة اوباما حائرة من امرها. لا تزال تراهن على أن الوقت كفيل بأن يأتي بحلّ للأزمة السورية. تتحدث عن الحرب على “داعش” الحليف الموضوعي لنظام بشّار الأسد ولا ترى البراميل المتفجّرة التي تستهدف السوريين في دوما وغير دوما. ليس مفهوما كيف يمكن لأوباما البقاء متفرّجا على المأساة التي تتعرض لها دوما القريبة من دمشق.
ليس لدى السوريين من خيار آخر غير الصمود. إنّهم يدفعون غاليا ثمن الأزمة التي عاشها بلدهم منذ ما قبل وصول البعث، بكلّ تخلّفه، إلى السلطة. الجانب الأكيد والثابت أنّ الشعب السوري أظهر قدرة غير طبيعية على الإستمرار في المقاومة. إنّه المقاوم والممانع الحقيقي في زمن تخلّى فيه الجميع عن سوريا واعتبروها حقل تجارب لما يمكن أن يكون عليه الشرق الأوسط الجديد.
إنّه الشرق الأوسط الذي لا يزال يعاني من اثار الزلزال الذي تسبّب به انهيار العراق نتيجة الإحتلال الأميركي في العام 2003 واعتقاد ايران أن ابواب المنطقة صارت مفتوحة لمشروعها التوسّعي المرتكز على اثارة الغرائز المذهبية ولا شيء آخر غير ذلك.