لعلّ ما هو اهمّ من الانتخابات العراقية والنتائج التي اسفرت عنها الاطار الإقليمي الذي جرت في ظلّه. جعل هذا الاطار قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الايراني يركض الى بغداد في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه إيرانيا. اذا كان من معنى لهذه الزيارة وحصولها في توقيت معيّن، يتمثّل هذا المعنى في انّ ايران باتت تشعر بانّ العراق يمكن ان يفلت منها بعد كلّ الجهود التي بذلتها منذ اطاح آيه الخميني الشاه ونظامه واقام “الجمهورية الإسلامية” في العام 1979. كانت ايران في الماضي القريب الآمر الناهي في العراق، بات عليها الآن البحث عن طريقة للحدّ من خسائرها في بلد بقي فترة طويلة من الزمن بمثابة مصدر للعائدات المالية تغذي بها خزينتها والميليشيات التابعة لها من المحيط الى الخليج.
ليس تقدّم لائحة رجل الدين مقتدى الصدر بعد الانتخابات سوى نتيجة طبيعية لرغبة العراقيين في استعادة بلدهم وقرارهم الحرّ. لم يكن ذلك ممكنا لولا ان شيئا ما تغيّر في المنطقة ولولا بوادر الضعف الايراني. ادّى ذلك الى انكشاف الدور الايراني على حقيقته، كقوّة استعمارية من جهة وسقوط النموذج الذي تريد ايران تقديمه من جهة أخرى. هناك فشل إيراني على كلّ المستويات، في ايران نفسها. في نهاية المطاف، كيف يمكن لنظام لم يحقّق شيئا، للايرانيين اوّلا، في أربعة عقود ان يقدّم نفسه لدول الجوار كتجربة قابلة للنجاح في ايّ مجال. يمكن بالطبع استثناء مجال الاستثمار الايراني في اثارة الغرائز المذهبية وانشاء ميليشيات مذهبية تعمل في خدمته.
ليس مقتدى الصدر شخصا خارقا، خصوصا انّ جانبا من شخصيته يعبّر عن البساطة الى حد كبير. كان الرجل محسوبا على ايران في مرحلة معيّنة. كان يقاتل الاميركيين والبريطانيين بعد احتلال العراق في العام 2003 تلبية لتوجهات من طهران. وما لبث في العامين الماضيين ان تحوّل، بقدرة قادر، الى رمز للوطنية العراقية في مواجهة الهيمنة الايرانية. لم يكتف بذلك، بل ذهب بعيدا في تحالفاته واوصل اعضاء شيوعيين الى مجلس النواب العراقي. من مفارقات العصر ان يصل مرشّحون شيوعيون الى البرلمان باصوات قائد ميليشيا شيعية رفع أنصاره شعار “مكافحة الفساد” وخروج ايران من العراق. يحصل ذلك في ذكرى مرور مئتي عام على ولادة كارل ماركس الذي لم تصمد من كلّ نظرياته في شأن الرأسمالية وديكتاتورية البروليتاريا سوى نظرية واحدة تصلح لكلّ العصور والفصول هي “انّ الدين افيون الشعوب”. لا شكّ ان كارل ماركس يتقلّب في قبره هذه الايّام!
كان مقتدى الصدر من بين أولئك العراقيين الذين برز نجمهم بعد الاحتلال الاميركي الذي اسقط نظام صدّام حسين في ربيع العام 2003. مثله مثل آخرين غيره، من الذين استفادوا من الحرب الاميركية على العراق، لم يتأخّر كثيرا في الانقلاب على الاميركيين والذهاب الى محاربتهم بتوجيهات ايرانية. لكن الفارق بينه وبين، معظم الآخرين، على رأسهم نوري المالكي انّه رفض الذهاب الى النهاية في خياراته الايرانية. ادرك، ربّما بسبب انتمائه الى عائلة عراقية عريقة ذات أصول عربية، انّ العرب عرب وان الفرس يبقون فرسا وان لا حدود للاحتقار الفارسي لكلّ ما هو عربي.
تكمن اهمّية مقتدى الصدر في انّه لم يتخل الى الآن عن الذين راهنوا عليه بين العرب، هو الذي زار الرياض قبل اقلّ بقليل من سنة، معيدا اكتشاف العمق العربي والخليجي للعراق وانّ العراق لا يستطيع ان يعود دولة مستقلّة يوما من دون الدعم العربي.
سيكون صعبا على قاسم سليماني النجاح في اقامة إقامة “تحالف واسع” يضمّ حيدر العبادي ونوري المالكي وهادي العامري وعمّار الحكيم، بما يؤدي الى تشكيل حكومة عراقية موالية لإيران شبيهة الى حدّ ما بحكومة المالكي التي تشكّلت بعد انتخابات العام 2010. ليس مكتوبا للمشروع الايراني في العراق ان ينجح. هذا عائد الى اسباب عدّة. في مقدّم هذه الاسباب ان إدارة دونالد ترامب ليست إدارة باراك أوباما. لن تكرّر تجربة جورج بوش الابن الذي سلّم العراق لإيران او تجربة باراك أوباما الذي استسلم كلّيا لإيران وقبل بكلّ شروطها العراقية. وصل الامر باوباما الى سحب القوات الاميركية من العراق. ليس في وارد الإدارة الاميركية الحالية الاستسلام لإيران، لا في العراق ولا في غير العراق. لو لم يكن الامر كذلك، لما تجرّأ حيدر العبادي، رئيس الوزراء الحالي، على أمتلاك هامش للمناورة جعله متحررا الى حد كبير عن ايران.
يرفض العبادي الذي يبدو ان قائمته ستحل في المرتبة الثالثة، في ضوء نتائج الانتخابات، ان يكون مجرد أداة إيرانية. قد يكون مردّ ذلك الى انّه ابن بغداد وعاش طويلا في بريطانيا، فضلا عن انّه لم ينغمس في ممارسات ميليشوية لـ”حزب الدعوة”. وهذه ممارسات ارتبطت في اثناء الحرب العراقية – الايرانية، بين 1980 و 1988 تحديدا، بالاجهزة الايرانية والسورية التي كانت تتحكم بالمعارضين العراقيين الذين اقاموا في دمشق وطهران، خصوصا اذا كانوا من “حزب الدعوة”.
لا بدّ من الانتظار بعض الوقت قبل الذهاب الى تقييم نهائي لنتائج الانتخابات العراقية. لكنّ ما يمكن ان يلعب لمصلحة المراهنين على مقتدى الصدر ان العراق ليس بلدا سهل المراس. كذلك، هناك على الرغم من كلّ حملات التطهير ذات الطابع المذهبي التي نفّذتها الميليشيات التابعة لإيران بما في ذلك تلك المنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي”، ما يدعو الى التفاؤل. التفاؤل بان العراق لن يبقى مستعمرة إيرانية. هناك في عمق كلّ شيعي عربي في العراق شعور بانّ الايراني، أي الفارسي يحتقره ويستخفّ به.
هذا الاستخفاف الايراني بكلّ ما هو عربي، جعل “الجمهورية الإسلامية” ترتكب في حرب 1980- 1988 خطأ مهاجمة الجنوب العراقي وقصف احياء البصرة معتقدة ان الشيعة حلفاء لها. كانت النتيجة ان اكبر الخسائر التي لحقت بالايرانيين وقتذاك كانت في معارك الجنوب حيث كان العراقيون الشيعة والسنّة يدافعون عن ارضهم تحت علم العراق الواحد.
ليس العراق، الذي يسعى فيه قاسم سليماني الى تعويم “الحشد الشعبي” عند منعطف. ايران نفسها في ازمة عميقة. ليس تمرّد مقتدى الصدر وتقدّم لائحته سوى تعبير عن هذه الازمة الايرانية. فمن العراق الذي احتله الاميركيون في 2003، كانت الانطلاقة الحقيقية للمشروع التوسّعي الايراني، ومن العراق سيبدأ، في ما يبدو، افول هذا المشروع الذي لم يعد قادرا حتّى على التعاطي مع شخص مثل مقتدى الصدر بدأ يعبّر عن وطنية عراقية ما. ليس معروفا بعد هل من افق لهذه الوطنية العراقية. بكلام أوضح هل تعتبر كافية لاعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية على ركام ما خلفه الزلزال الذي تسبب به الاحتلال الاميركي ثمّ الاحتلال الايراني…
*
من خلال التعليق الأشبه بالتقييم لا ارى ان السيد (خير اللاه خير اللاه) ملم بماركس او النظرية الماركسيه،