في مثل هذه الايّام، قبل تسعة عشر عاما، غاب الملك حسين بن طلال. يتبيّن الآن، اكثر من ايّ وقت كم كان باني الأردن الحديث شخصية مهمّة واستثنائية، عربيا ودوليا، على الرغم من كلّ الظلم الذي لحق به.
يكفي ان المملكة الأردنية ما زالت موجودة للتأكّد من ذلك في وقت انهارت سوريا وتفتّتت ولم يعد معروفا مصير العراق. ما الذي جعل الأردن يصمدّ ويظلّ محافظا على دوره ووجوده في حين أصاب الجارين العراقي والسوري ما اصابهما؟
الجواب في انّ الأردن استطاع المحافظة على مؤسساته، أي على مؤسسات الدولة وتطويرها بما يتلاءم مع التطورات الإقليمية بعيدا عن كلّ الاوهام بمختلف تلاوينها. عرف الأردن حجمه منذ البداية وعرف كيف يدافع عن مصالحه من دون عقد ومن دون الدخول في لعبة المزايدات التي لا طائل منها. عرف اين يجب ان يتوقّف وعرف ما هي موازين القوى في هذا العالم. لو استطاع صدّام حسين ان يعرف شيئا عما يدور في العالم والمنطقة، لما كان حلّ بالعراق ما حلّ به ولما كان سقط في يد ايران. لو عرف حافظ الأسد ان الانصراف الى معالجة مشاكل سوريا اهمّ بكثير من متابعة لعبة اللاحرب واللاسلام من اجل حماية نظامه الطائفي لما كان بشّار الأسد، وصل أصلا الى السلطة. ولما كان في الإمكان استخدامه، كما يحصل الآن، في لعبة تستهدف تفتيت بلد كان يمكن ان يكون من اكثر بلدان المنطقة ازدهارا وقدرة على الانفتاح على العالم.
الاهمّ من ذلك كلّه، عرف الأردن اقتناص الفرص بدل البقاء في مهبّ الريح. عندما وقّع الجانب الفلسطيني اتفاق أوسلو في أيلول – سبتمبر من العام 1993، شعر الملك حسين انّ في استطاعته الذهاب الى ابرام اتفاق سلام مع إسرائيل. لو لم يوقّع الاردن اتفاق وادي عربة في تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 1994، لكان الآن يجرجر ذيول الخيبة ولكان ممسحة لاولئك الذين يؤمنون بسلاح الإرهاب ان في الجانب الإسرائيلي او في الجانب العربي او في ايران من اجل نشر الفوضى في كلّ المنطقة.
باستغلاله اللحظة التاريخية التي توفرت في العام 1994، استعاد الأردن حقوقه في الأرض والمياه وسمح وقتذاك للفلسطينيين بمتابعة مفاوضاتهم مع إسرائيل. كانت المفاوضات من دون جدوى. كان ذلك عائدا الى ان الفلسطينيين لم يدركوا يوما ما هي إسرائيل ولم يدركوا انّه كان عليهم الإسراع في عقد صفقة مع اسحق رابين… مباشرة بعد توقيع اتفاق أوسلو، وصعود اليمين المتطرّف الذي لا يؤمن سوى بتكريس الاحتلال.
لو خاف الملك حسين مما كان يقال عنه، لكان الأردن اليوم يصارع من اجل البقاء. فحافظ الأسد كان يطمح الى إبقاء الوضع الأردني معلّقا. لذلك، علّق على المعاهدة الأردنية – الإسرائيلية بعبارة “تأجير الأرض مثل تأجير العرض” وذلك بهدف تبرير عدم رغبته في استعادة الجولان المحتل. كان كلامه من النوع الذي لا معنى له، لا لشيء سوى لانّ هدف الأسد الأب كان يقوم على المحافظة على نظامه ولا شيء آخر غير ذلك، مهما كان ثمن ذلك. كان يعتبر ان تسليمه إسرائيل للجولان في العام 1967، عندما كان لا يزال وزيرا للدفاع، يشكّل الضمانة الاولى لهذا النظام الذي أراد القضاء نهائيا على لبنان عبر دعم كلّ أنواع الميليشيات فيه.
اكثر من ذلك، استخدم حافظ الأسد، بعقله الشرير، المسلّحين الفلسطينيين لتدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، غير مدرك ان كلّ ما فعله سيرتد عليه يوما. كان الأسد الاب يعتقد ان تسليم الأرض (الجولان) تمهيدا لتمكين إسرائيل من ضمّها نهائيا افضل بكثير من تأجير الأرض، كما فعل الأردن، هذا اذا كان هناك من تأجير اردني لايّ ارض.
في كلّ ما قام به الملك حسين، كان بعيد النظر. انقذ الفلسطينيين من انفسهم عندما اخرج المسلحين من أراضي المملكة في العام 1970. قطع الملك حسين وقتذاك الطريق على مشروع الوطن البديل الذي كان يؤمن به ارييل شارون.
خسر العرب الملك حسين، الذي عرف قبل غيره قيمة العراق واهمّيته وضرورة المحافظة على العراق بصفة كونه احد أعمدة النظام الإقليمي وشرطا من شروط إيجاد توازن مع ايران.
في كلّ ما فعله الملك حسين، كان هناك ادراك لاهمّية المحافظة على الأردن اوّلا. حافظ قبل كلّ شيء على بلده الذي سقط في فخّ الدخول في حرب العام 1967 بسبب رجل جاهل اسمه جمال عبد الناصر لم يتقن غير لغة الشعارات الكاذبة والفارغة من أي مضمون. كانت النتيجة خسارة القدس والضفّة الغربية التي لم يستطع الفلسطينيون عمل شيء من اجل استعادتها باستثناء خطوة توقيع اتفاق أوسلو الذي أعاد ياسر عرفات الى ارض فلسطين.
اسّس الملك حسين دولة حقيقية. بنى شيئا من لاشيء. يمكن قول هذا الكلام اذا اخذنا في الاعتبار ان الأردن لا يمتلك أي ثروات طبيعية كما انّه من اكثر بلدان العالم التي تعاني من شحّ في المياه. اذا كان من كلمة حقّ تقال، فان الأمير الحسن بن طلال، وليّ العهد طوال خمسة وثلاثين عاما، لعب دورا كبيرا في جعل مشاريع التنمية ترافق بناء الإدارة الأردنية ومؤسسات الدولة، في مقدّمها الامن والجيش.
لم يمنع ذلك الملك حسين من اختيار ابنه عبدالله لخلافته حين ادرك ان المرض هزمه. كان هنا أيضا بعيد النظر. لم يكن يعرف فقط كيف يختار اللحظة المناسبة للاقدام على خطوة محدّدة. كان يعرف من هو الشخص الأفضل لتسيير مرحلة معيّنة من موقع معيّن. تلك الميزة جعلت الملك حسين يتخذ قرار فك الارتباط مع الضفّة الغربية في العام 1987 ثم قرار اجراء الانتخابات النيابية في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 في الوقت الذي كان هناك من يحطّم جدار برلين إيذانا بانتهاء الحرب الباردة.
ثمّة عوامل كثيرة جعلت الأردن يصمد ويبقى لاعبا إقليميا، وان في حدود معيّنة. ابرز هذه العوامل قرار نقل ولاية العهد الى عبدالله بن الحسين الذي اثبت في السنوات الـ19 الماضية، أي منذ صعوده الى العرش، انّه ليس شخصا عاديا بايّ مقياس من المقاييس وذلك في ظلّ ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد. من بين هذه الظروف تدفّق اللاجئين السوريين على البلد وغياب العراق كمصدر للمساعدات وبوابة للتبادل التجاري… في ظلّ حصار لم يسبق للمملكة الهاشمية ان تعرّضت لمثيل له منذ الاستقلال.
خلق الملك حسين الظروف التي تسمح للاردن بامتلاك القدرة على التكيّف. على الرغم من ان حياته كانت قصيرة. توفّى عن اربعة وستين عاما في السابع من شباط – فبراير 1999. كان الحسين بن طلال خسارة لا تعوّض في منطقة لا يصحّ فيها هذا الوصف الّا لدى الحديث عن عدد قليل جدا من الحكّام العرب. لم يكن على هؤلاء الرجال العمل من اجل بناء بلدهم فحسب، بل كان عليهم ايضا ردّ الحملات التي تعرّضوا لها. كم كانت الحملات على الأردن شرسة طوال فترة امتدت من اليوم الذي اصبح فيه الحسين ملكا في 1952، الى يوم اختياره ابنه البكر خليفة له في 1999…