في تحليل لـ”جبهة النصرة” يعتبر مراسل جريدة “لوموند” الفرنسية، “بنجامان بارت”، أن “النصرة ليست أقوى الجماعات المسلحة التي تقاتل نظام بشّار الأسد، لكنها حتماً أكثرها غموضاً. وربما أكثرها مدعاةً للقلق ، حسب بعض المراقبين. ومنذ ظهورها في ميدان القتال السوري في ٢٠١٢، فإن “جبهة النصرة” تستخدم يافطات متعددة. من جهة، هنالك الجماعة المسلحة، التي تشكل حلقة مركزية في الثورة، والتي تُحظى بالإعجاب بسبب بسالة مقاتليها الذين يتقاسمون حالياً السيطرة على مدينة “إدلب”، التي خسرتها القوات الحكومية مؤخراً. ومن جهة أخرى، هنالك الحركة الجهادية، التي تمثّل الفرع المشرقي لـ”القاعدة”، التي تَرجُِمُ النساء الزانيات علناً، والتي تسحق الكتائب الثاثرة التي تقيم علاقاتٍ وثيقة مع الولايات المتحدة.
وقد وجّهت “النصرة” تحذيراً لـ”عملاء أميركا”، أمس الجمعة في ٣١ يوليو، بإعلانها عن خطف مقاتلين كانت واشنطن تقوم بتدريبهم في تركيا منذ شهر مايو قبل أن يدخلوا الأراضي السورية في منتصف يوليو الحالي. وأكّد البنتاغون أنه لم يتم أسر أيٍّ من ٦٠ مقاتلاً قام بتدريبهم، ولكن المرصد السوري لحقوق الإنسان ومصادر معارضة أكّدت خطف قائد “الفرقة ٣٠”، نديم الحسن وعدد من رجاله في ريف حلب (في الشمال).
وبلغ غموض “النصرة” ذروته في الأسابيع الأخيرة. ففي آخر شهر مايو أقسم قائدها “أبو محمد الجولاني”، في مقابلة طويلة مع قناة “الجزيرة” القطرية، أنه لا ينبغي للأقليات الدينية في سوريا أن تخشى من حركته. وبعد أسبوعين، في ١٠ يونيو، قام أعضاء من حركته باغتيال ٢٠ درزياً بعد مشاحنة في قرية درزية قرب “إدلب”.
وقد أدان “الجولاني” ما حدث ووعدَ بمعاقبة الفاعلين، ولكن المجزرة جدّدت السجال داخل المعارضة حول النوايا الحقيقية لـ”النصرة” وحول فائدة التحالف معها. والمعضلة كبيرة لأن “النصرة”، مع حركة “أحرار الشام” السَلَفية، تمثّل القوة الأساسية في “جيش الفتح”، وهو ائتلاف عسكري سجّل انتصارات متلاحقة منذ آخر فصل الشتاء. ولولا عملياته الإنتحارية الباهرة ضد حواجز الجيش النظامي أو قواعده العسكرية، والتي تعادل القصف الجوّي الدقيق، لكان صعباً جدّاً على المتمرّدين أن يخترقوا استحكامات النظام.
ويقول مستشار سياسي لجماعي عسكرية معتدلة أن “النصرة هي ستالين سوريا. وقد تحالف الأميركيون معه أثناء الحرب العالمية الثانية لأنه لم يكن لديهم خيار آخر. ولكنهم كانوا يدركون أن حرباً ثانية ضد الإتحاد السوفياتي ستبدأ حال هزيمة هتلر”.
والواقع أن “الجولاني” كان يهدف لطمأنة شركاء حينما وافق على القيام بعملية “الإغراء” التي نظّمتها إمارة قطر بواسطة قناة “الجزيرة” التي تملكها. وكانت المقابلة التي أجرتها “الجزيرة” معه بمثابة جائزة ترضية. ففي مطلع السنة، سَعَت قطر عبثاً لإقناع “الجولاني” بإعلان القطيعة مع “القاعدة”. وتلعب قطر دور الوسيطَ مع جبهة النصرة منذ نجاحها في إقناعها، بفضل حقائب الدولارات بتحرير الرهائن الذين كانت تحتجزهم.
“شنط دولارات خضراء”
وكانت الصفقة الأكثر ربحاً هي التي سمحت بإقناع “النصرة” بإطلاق سراح راهبات دير “معلولا”، في شمال دمشق، في شهر مارس ٢٠١٤. وقبضت “النصرة” مبلغ ١٦ مليون دولار دفعته قطر لوحدها. ويثير دور الوساطة الذي تلعبه قطر بين حين وآخر التكهّنات بأن جهاز استخبارات قطر هو مورّد أسلحة “النصرة”، الأمر الذي يكذّبه الفريقان.
وكان “الجولاني، أثناء المقابلة مع “الجزيرة” التي استغرقت ٤٥ دقيقة قد وافق على تصويره بحيث لا يظهر سوى ظهره ويداه، مع شال أسود يغطي رأسه. وقد ارتدى لباساً سورياً تقليدياً لا صلة له بـ”الشروال قميص” الأفغاني الذي يفضّله الجهاديون- في ما بدا أنه طريقة لإبراز البُعد المحلي لجبهة “النصرة”. فمعظم أعضاء “النصرة”، وبعكس “الدولة الإسلامية”، هم من السوريين، رغم علاقتها بـ”القاعدة”.
وإذا ما صدّقنا معلومات “الجزيرة”، فإن “الجولاني”، وإسمه الحقيقي هو “أسامة العبسي الوحيدي”، هو من منطقة “دير الزور” في شرق سوريا، ومن مواليد ١٩٨١. وقد خضع لتدريب جهادي تقليدي، وأقام في العراق مع جماعة “أبو مصعب الزرقاوي”، ثم في لبنان بعد ٢٠٠٥ بصفة مدرِّب لجماعة “جُند الشام”، ثم سجنه الأميركيون في معسكر “بوكا” في جنوب العراق، حيث كان زعيم “الدولة الإسلامية”، “أبو بكر البغدادي”، مسجوناً هو الآخر.
ورغم هذا السجل الجهادي الحافل، فقد حرص “الجولاني”، في مقابلته مع “الجزيرة”، على إعطاء تصريحات مطمئنة مؤكدا أن جماعته “لا تقال سوى من يقاتلها”. وبالنسبة للعلويين، فقد وعد بحمايتهم “إذا تخلوا عن دينهم وعن بشار الأسد”. ووعد بألا يهاجم الغرب، مركّزاً على أن أوامر أيمن الظواهري له كانت العمل للإطاحة بنظام دمشق.
والواقع أن “النصرة”، إبان خريف ٢٠١٤ وشتاء ٢٠١٥، قامت باستئصال جماعتين مرتبطتين بـ”الجيش السوري الحر”، أي الفرع المعتدل للثورة لاذي تسلّحه أميركا والسعودية. وفي منطقة “إدلب” بدأ أعضاء “النصرة” في فرض “الشريعة” على الناس بالقوة، وأجبروا المخازن على الإقفال في أوقات الصلاة، وأخذوا يتعقبّون المتّهمين بالزنى. واعتبر المراقبون في حينه أن ذلك التصلّب كان مقدمة لإعلان “إمارة النصرة” في شمال سوريا، وردّاً على إعلان البغدادي عن إحياء “الخلافة الإسلامية”.
لكن الخط الجديد لـ”النصرة”، الناجم عن التأثير القطري المُلطِّف، يركّز على العمل الجماعي. ومقابل الإستيلاء على السلطة من فوق، كما فعلت “الدولة الإسلامية، فإن “النصرة تستخدم تكتيك السيطرة من تحت، وهو أكثر دهاءً وأكثر بطئاً. ويعتبر الباحث “تشارلز ليستر” أن “الدولة الإسلامية تريد كل شيء فوراً،في حين أن النصرة أكثر صبراً”. وقد نَفَعها هذا التكتيك حتى الآن. وبفضل مهارتها في استخدام الإنترنيت، فقد استحوذت على المجد الإعلامي للإنتصارات التي أحرزها “جيش الفتح”، مع أن جماعة “أحرار الشام” شاركت بعدد أكبر من المقاتلين في بعض العمليات العسكرية.
رهان قطر الخَطِر
هل يمكن لـ”جبهة النصرة”، بفضل براغماتيتها، أن تقطع صلاتها بصورة نهائية مع “القاعدة” وأن تذوب ضمن الثورة السورية؟ ذلك هو رهانُ قطر، ورهان السعودية وتركيا كذلك، اللتين تتوليان تمويل “جيش الفتح”. ولكنه رهان خطر جداً، كما أثبتت المجزرة التي تعرّض لها الدروز في “قلب لوزة”. وتضمّ “النصرة” جهاديين قدامى وصلوا من الميادين الباكستانية الأفغانية، وتتّهمهم واشنطن بتحضير هجمات ضد الغرب. وقام الطيران الأميركي مراراً بقصف العناصر الأكثر تطرّفاً من أنصار بن لادن في سوريا.
ويقول “حسام المراعي”، الناطق السابق بلسان “الجيش الحرّ” والذي يعمل حالياً في مركز أبحاث في تركيا أن “تفكير جماعة النصرة لا يختلف عن تفكير الدولة الإسلامية. والفارق بينهم تكتيكي فحسب”. وهو يعتقد أنه يكفي أن تتعرّض الحملات العسكرية ضد قوات النظام لمصاعب لكي تبرز الخلافات بين الجماعات المسلحة مجدداً وتتحوّل إلى صدامات مسلحة. بل ويمكن في هذه الحالات أن ينضمّ رجال “النصرة” إلى “الدولة الإسلامية”.
الخطة “ب”
إدراكاً منهم لهذا الخطر، فإن “عرّابي” الثورة من الدول السنّية يعملون على “خطة بديلة”. فحواها هو إبراز “جيش الإسلام”، وهو أقوى جماعة مسلحة في ضاحية دمشق. وقد شوهد زعيمه “زهران علوش” في مطلع يونيو في استانبول وعمّان. ويُقال أن هنالك تقارباً مستجداً بين “جيش الإسلام” وقوات “جبهة الجنوب”، وهي ائتلاف لكتائب تابعة للجيش الحر ينشط في منطقة “درعا”. إن “علّوش”، وهو سلفي معلَن، ليس ديمقراطياً. ولكن، في حال انهيار النظام، فإنه يمكن أن يكون أحد القادة العسكريين القلائل القادرين على الحؤول دون وصول “القاعدة” أو “الدولة الإسلامية” إلى دمشق.
إقرأ أيضاً:
زمن حقير: “جزيرة” قطر تروّج لـ”جولاني” القاعدة مهدّداً العلويين لـ”الإقلاع عن الشِرك”