ستحصل ايران على الغاءٍ تدريجي للعقوبات التي كبّلت اقتصادها وجعلت حياة الايرانيين في اسوأ حالاتها منذ سقوط الشاه، لكن ذلك لم يتم الا بعد تنازلات للغرب واميركا وصلت للتخلي عن برنامجها لصنع السلاح النووي والصواريخ البالستية التي تحمل رؤوسا نووية، مع استمرار العقوبات المفروضة من مجلس الامن والدول الغربية حول ملفّها بانتهاك حقوق الانسان ودعمها للارهاب، وقبول رقابة دولية مستمرة للتأكد من تنفيذها للاتفاق. وهي التنازلات التي حاول النظام الايراني، للاستهلاك المحلي، اخفاءها بتصوير الاتفاق كانتصار، فيما لم يخفِ محافظون قلقهم منه ودعوتهم لعدم تنفيذ بعض بنوده منذ الآن.
الاتفاق اهم انجاز في السياسة الخارجية لادارة اوباما لاثبات ان سياسته في الحوار مع الاعداء يمكن ان تثمر وتمنع قيام حروب كارثية للجميع، وهذا ما سعى اليه مع كوبا ايضا. لكن الاتفاق ليس مصالحة شاملة لاقتصاره على الشأن النووي، فلا يتضمن اية بنود حول العلاقات السياسية مع النظام، رغم تصوير محللين عرب ان اميركا تخلت لايران عن الشرق الاوسط!، وتخلت عن حلفائها العرب وان تحالفها مع اسرائيل قد اهتز وغير ذلك مما يروجه عادة “السايكسبيكويين” الذين بدأوا يتحدثون منذ الآن عن بنود “سرية؟” جرى الاتفاق عليها “من تحت الطاولة!”.
اميركا لن تطبّع علاقاتها مع النظام الايراني الا بعد تنفيذ كامل الاتفاق المبني على “التحقق” وليس “الثقة”، وهو ما اكدته تصريحات مسؤولون ايرانيون من انهم لا يثقون باميركا فهي ما تزال “الشيطان الاكبر”. فيما اميركا لا تتوقع قبول ايران بحل الازمات في المنطقة وتقليص تمددها فيها الذي لم يتوقف في السابق رغم العقوبات التي دامت 12 عاما.
يبقى الخيار العسكري على الطاولة، ولا يرفع الحرس الثوري، القوة الرئيسية للنظام الايراني، من قائمة الارهاب، والاطراف الغربية ستستمر في مراقبة التمدد الايراني الاقليمي ومواجهته عند الضرورة. الاتفاق مع ايران حول سلاحها النووي يكاد يشابه الاتفاق الاميركي السوري حول سلاح النظام الكيماوي الذي لم يعن عودة العلاقات بين الدولتين لطبيعتها، فالعداء مستمر واميركا تطالب برحيل رأس النظام رغم عدم فعلها الكثير لتحقيقه.
السؤال الرئيسي بعد الاتفاق كيف ستنفق ايران الموارد التي ستحصل عليها بعد رفع العقوبات؟ من اموال مجمّدة ومن تصدير النفط الذي يمكن ان تتضاعف كمية انتاجه للعودة الى ما كان عليه اي اربعة ملايين برميل يوميا مقارنة بالانتاج خلال العقوبات الذي لم يتجاوز المليونين؟
اجمالا لا يمكن التنبؤ بمآل هذه الاموال الا بعد مرور وقت كاف على تنفيذ الاتفاق. الا انه يمكن برأينا ترجيح انها ستصرف على تحسين اوضاع الشعب الايراني وليس المزيد من الصرف في مجال التمدد الخارجي. فالأسباب الاقتصادية هي التي دفعت النظام لقبول ما قال عنه البعض “تجرع السم النووي!”، وليس التمدد الاقليمي الذي لم يتوقف طوال فترة العقوبات.
الثورة الخضراء عام 2009 نبّهت النظام لامكانية وضعه على جدول الانتفاضات التي عمت المنطقة ولم توفر الانظمة التي تعتمد على الايديولوجيا كالنظام الليبي والسوري. وتفادي نفس المصير هدف رجح قبول النظام بتقديم تنازلات في عملية التفاوض لصالح تدارك ما هو اهم : مصير نظام الملالي نفسه. المرشد الاعلى اثبت انه يلتزم بالايديولوجيا ولكن ليس الى حد الانتحار كما فعل الدكتاتور العراقي والدكتاتور الليبي، فلديه براغماتية كافية للتراجع، كما فعل الخميني عندما “تجرع السم” بوقف الحرب مع العراق.
هل ستطبق ايران النهج البراغماتي في مجال التمدد الاقليمي؟ أمل البعض ان نجاح الحوار في حل المسألة النووية قد يستجر نجاحا في الحوار حول ازمات المنطقة التي تشارك في تأجيجها ايران. هذا ما ستوضحه الايام القادمة ولو اننا لا نتوقع ذلك حيث انها استمرت في سياساتها الخارجية رغم العوائق والصعوبات التي واجهتها اثر افتضاح البعد الايديولوجي المذهبي لسياساتها لدى قطاعات واسعة من شعوب المنطقة.
ايران مرت بمراحل في سياساتها الخارجية اذ تصاعدت دعوتها “لتصدير الثورة” عقب انتصارها على الشاه، ثم اتت مرحلة الحرب مع العراق التي اقنعت نتيجتها الكارثية معظم قيادات ايران بتأجيل شعار تصدير الثورة، الذي اصبح يفهم منه التمدد الخارجي، ليصل الى السلطة البراغماتيين امثال رافسنجاني وخاتمي ليعملوا على ابعاد ايران عن الخوض في الشؤون الداخلية لبلدان المنطقة والتركيز على تحسين العلاقات معها. الا ان وسطيتهم وقبولهم باستمرار تحكم الولي الفقيه في امور البلد افقدتهم شعبيتهم مما مكن المحافظين من ازاحتهم عن السلطة وانجاح احمدي نجاد. وبالتالي عودة المتشددين الى السلطة الرئاسية والتشريعية وتهميش الاصلاحيين. الدفعة الكبيرة لعودة سياسة تصدير الثورة وفرتها فرصة اندلاع الانتفاضات الشعبية في بلدان عربية ثم تعثر اغلبها مما افسح المجال لعودة التمدد الايراني ومنه اخيرا امتطاء التمرد الحوثي.
مفترق الطريق الراهن قد يدخل ايران في مرحلة جديدة مع امل ضعيف بان الاتفاق سيفتح الطريق لحلول لازمات المنطقة عن طريق الحوار، لتقبل ايران أن تدخلاتها جلبت ضررا كبيرا لمصالحها في المنطقة لتكف عنها او تقلصها، او تساهم بتقديم تنازلات مقابل تحقيق اتفاقات حلول وسط كما حصل في الاتفاق النووي. علما ان تدخلها وصل الى ذروته واصبح على اعتاب هزائم مدوية ولن يفيده المزيد من ضخ الاموال والاسلحة للميليشيات المذهبية التي ترعاها ايران في اكثر من بلد.
قد يقول البعض ان البراغماتية تمارسها ايران في سياستها تجاه الغرب، فيما تمارس السياسة ذات البعد الايديولوجي في المجال العربي والاسلامي. هناك طرفان يعتمد احدهما بالاساس على السياسة البراغماتية وتحسين الاوضاع المعيشية الداخلية ووراءه الاصلاحيين في السلطة، والطرف الآخر المتشدد من رجال دين وقيادات الحرس الثوري بقيادة الولي الفقيه، الذي يحصر بين يديه معظم السلطات، اقرب لاعتماد الايديولوجيا في معظم سياساته، والنتيجة مزيج من السياستين مع رجحان مستمر للتيار المحافظ المقر بالدستوراصلا.
هل نجاح الاتفاق النووي سيمكّن الرئيس الاصلاحي روحاني من تحسين الاوضاع المعيشية للايرانيين التي وصلت الى حد ان حوالي نصف الايرانيين تحت خط الفقر، وبالتالي تحسين فرصه الانتخابية القادمة، الرئاسية 2017 والتشريعية 2016؟ ام ان المحافظين سيوجهون الاموال للمزيد من محاولات التمدد الفاشلة على حساب قوت الشعب؟ مما سيستجر انتفاضة جديدة قد تكون القاضية على نظام الملالي اذ ان غالبية كبيرة صارت ترى ان الولي الفقيه هو “الشيطان الاكبر” الحقيقي.
العالم يتغير .. المنطقة يطرق ابوابها التغيير بقوة .. فهل تتغير ايران فتتراجع في المستوى الاقليمي كما تراجعت في المستوى الدولي؟ ام تستمر في التعلق بالبُعد الايديولوجي الذي ثبت ان مصيره جر النظام للانهيار الذي يذكرنا بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كانت اسبابه الرئيسية تشدد الايديولوجيا في ادارة الاقتصاد حسب نظريات ومفاهيم تتجاهل الوقائع الملموسة، بالاضافة لتوجيه معظم الدخل لبرامج التسلح والتمدد الخارجي الذي كان آخره احتلال افغانستان الذي تلاه الانسحاب الذليل بسبب الازمة الاقتصادية الداخلية.
ahmarw6@gmail.com