لقد غيّرت الحرب في سوريا «حزب الله» بشكل كبير. ففي السابق، كان يقتصر التنظيم على التنافس على السلطة السياسية في لبنان ومحاربة إسرائيل، ولكنه أصبح الآن لاعباً إقليمياً يشارك في صراعات تتجاوز حدود منطقة عملياته التاريخية، وغالباً ما يحدث ذلك بالتعاون مع إيران. ومما يؤكد هذا التحول الاستراتيجي أنّ «حزب الله» نقل مقاتليه الرئيسيين الذين كانوا متمركزين سابقاً قرب الحدود الإسرائيلية- اللبنانية إلى مركز قيادة أنشئ حديثاً في سوريا ومواقع أمامية أبعد من ذلك في الخارج، أي في العراق واليمن.
وفي البداية، عارض الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله إرسال مقاتلين إلى سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد، على الرغم من الطلبات المتكررة من القادة الإيرانيين، وخاصة من قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني. وعلى غرار البعض من القادة الآخرين في «حزب الله»، يخشى نصر الله من أن الانخراط في سوريا من شأنه أن يقوّض مكانة التنظيم في لبنان من خلال ربط «حزب الله» – الحزب الشيعي الرئيسي في لبنان – بالحكومة السورية القمعية المتحالفة مع إيران والتي تذبح السكان ذات الغالبية السنية في البلاد. ولكن كما ذكرت بعض التقارير أذعن نصر الله لذلك بعد تلقيه نداءً من المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، أوضح فيه أنّ إيران توقّعت قيام «حزب الله» بدعم حكم الأسد. ونتيجة لذلك؛ جعل تحوّل عمليات «حزب الله» نحو سوريا وخارجها إلى حدوث تغيير في «حزب الله» من منظمة لبنانية تركز على السياسة الداخلية إلى قوةً طائفية إقليمية تعمل بتحريض من إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
تحوّل تنظيمي
تمثّل المؤشرات الهيكلية أقوى الدلائل على حدوث تحوّل في «حزب الله». فمنذ عام 2013، أضاف التنظيم قيادتين جديدتين إلى قواعده الموجودة في جنوب وشرق لبنان – الأولى على الحدود اللبنانية السورية، والثانية داخل سوريا نفسها. وتشير عملية إعادة التنظيم المذهلة إلى التزام جدي من قبل «الحزب» بالمشاركة في الصراعات الأهلية التي تتجاوز الحدود اللبنانية.
ومن خلال تثبيت وجوده الجديد في سوريا، نقل «حزب الله» عناصر رئيسية من القيادة التقليدية العليا في الجنوب على طول الحدود اللبنانية مع إسرائيل. وكان رئيس العمليات الإرهابية الأجنبية في «حزب الله» مصطفى بدر الدين قد بدأ بتنسيق الأنشطة العسكرية لـ «الحزب» في سوريا في عام 2012 ، ويرأس حالياً القيادة السورية للتنظيم. وبدر الدين هو أحد القادة المخضرمين داخل «حزب الله» وكان متورطاً في تفجير الثكنات الأمريكية في بيروت عام 1983، وفي اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في عام 2005، والتفجيرات الإرهابية في الكويت، من بين هجمات أخرى. إن تعيينه هو أقوى إشارة قد يعطيها «حزب الله» عن التزامه تجاه الحرب الأهلية في سوريا. وتشمل تعيينات العناصر الأخرى، القائد في «حزب الله» منذ فترة طويلة، أبو علي الطبطبائي، الذي نُقل من أحد المواقع في جنوب لبنان إلى قيادة «حزب الله» في سوريا، حيث شغل منصب أحد كبار الضباط تحت قيادة بدر الدين، وأشرف على العديد من الجنود المدربين تدريباً عالياً الذين كانوا سابقاً تحت قيادته في لبنان. ويمتد تركيز «حزب الله» على الصراع السوري ليشمل الصفوف العليا في التنظيم أيضاً: فقد وجّه نصر الله أنشطة «الحزب» في سوريا على الأقل منذ أيلول/سبتمبر 2011، عندما ذكرت بعض التقارير أنه بدأ يجتمع بالأسد في دمشق لتنسيق مساهمات «حزب الله» في الحرب الأهلية في البلاد. وفي الواقع، كان تركيز التنظيم المكثف على الصراع السوري هو السبب الرئيسي الذي دفع بوزارة الخزانة الأمريكية إلى إدراجه على القائمة السوداء في عام 2012. واليوم، هناك ما يقرب من6 آلاف إلى 8 آلاف مقاتل من «حزب الله» في سوريا.
في القلمون: خسائر الحزب ٦٠ إلى ٨٠ مقاتل أسبوعياً
ولكنّ الانضمام إلى المعركة في سوريا لم يخلُ من المخاطر، وقد عانى «حزب الله» من بعض الخسائر الفادحة بين عناصره في كل من لبنان وسوريا، نتيجة لذلك. فقد اغتيل رئيس قسم المشتريات العسكرية لـ «حزب الله» حسن اللقيس في بيروت في كانون الأول/ديسمبر عام 2013. وعلى الرغم من أن المشتبه بهم الرئيسيين كانوا عملاء إسرائيليين، إلا أنه لم يتم استبعاد المتطرفين السنة الذين يرغبون في الانتقام من «حزب الله» بسبب دعمه لحكومة الأسد. وقد قُتل العديد من الضباط ذوي الرتب العالية في سوريا، بمن فيهم فوزي أيوب، العضو منذ فترة طويلة في الجناح الإرهابي الخارجي لـ «حزب الله» الذي قُتل في اشتباكات مع ثوار مناهضين للأسد، كما ذكرت بعض التقارير. وفي النصف الأول من عام 2015، كان «حزب الله» يتكبد خسائر إسبوعية تتراوح ما بين 60 و 80 مقاتلاً في منطقة القلمون السورية وحدها. ويُظهر مقتل عناصر «حزب الله» من مكانة أيوب في سوريا – والعدد الكبير من المسلحين الذين قتلوا وأصيبوا هناك – مدى جدية التنظيم في الدفاع عن نظام الأسد. ومن جهة أخرى، يشير تحمّله لهذه الخسائر إلى أنّ «حزب الله» يعتبر، وعلى نحو متزايد، أنّ الصراع السوري معركةً وجودية من المكن أن تؤثر على مكانته الداخلية في لبنان من جهة، ولمكانة القوى الشيعية في الصراع الطائفي المرير في سوريا، من جهة أخرى.
وحتى بينما يعمّق «حزب الله» أنشطته في سوريا، يواصل التنظيم مساعدة الميليشيات الشيعية في العراق ويرسل أعداداً صغيرة من المدربين المهرة لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» والدفاع عن المقدسات الشيعية هناك. ووفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية، استثمر «حزب الله» أيضاً في منظمات واجهة تجارية لدعم عملياته في العراق. وكان عضو «حزب الله» أدهم طباجة، وهو صاحب أغلبية الأسهم في شركة العقارات والإنشاءات “مجموعة الإنماء للأعمال والسياحة” ومقرها لبنان، قد قام باستغلال الشركات العراقية التابعة لمجموعته لتمويل «حزب الله»، وذلك بمساعدة رجل الأعمال اللبناني المرتبط بـ «حزب الله»، قاسم حجيج، والعضو في وحدة الإرهاب الخارجي التابعة لـ «الحزب»، حسين علي فاعور.
اليمن: “خليل حرب” و”الطباطبائي”
وكما هو الحال في العراق، لم يرسل «حزب الله» سوى عدد قليل من المدربين والمقاتلين من ذوي المهارات العالية إلى اليمن. ولكن كما هو الحال في سوريا تشير المكانة البارزة للعناصر التي أرسلها إلى هناك، إلى الأهمية التي يوليها «الحزب» للحرب الأهلية الدائرة في البلاد. ويشرف قائد العمليات الخاصة السابق والمستشار المقرب من نصر الله، خليل حرب، على أنشطة الحزب في اليمن ويدير عملية نقل الأموال إلى التنظيم داخل البلاد – وكثيراً ما يسافر إلى طهران لتنسيق أنشطة «حزب الله» مع المسؤولين الايرانيين. ونظراً لخبرته في العمل مع منظمات إرهابية أخرى، وعلاقاته الوثيقة مع القادة الإيرانيين و «حزب الله»، وخبرته في العمليات الخاصة والتدريب، لا شكّ في أنّ تعيين «حرب» للعمل في اليمن منطقيّ جداً بالنسبة إلى «حزب الله».
ومع ذلك، إن «حرب» ليس أبرز الناشطين من حيث المكانة، الذين تمّ إيفادهم إلى اليمن من قبل «حزب الله». ففي ربيع عام 2015، أرسل «الحزب» القائد الأعلى للقوات المرابطة في سوريا سابقاً، أبو علي الطبطبائي، لرفع مستوى البرنامج التدريبي لجماعة الحوثيين المتمردين في اليمن، الذي ينطوي تدريبهم على تكتيكات حرب العصابات، كما ذكرت بعض التقارير. وقال لي مسؤول إسرائيلي: “إن إرسال الطبطبائي [إلى اليمن] هو دلالة على الاستثمار الكبير لـ «حزب الله» والتزامه. والسؤال الرئيسي هو كَم من الوقت سيبقى شخص بمكانة الطبطبائي [في تلك البلاد].”
التزام طويل الأمد
في سوريا وخارجها، تعقّدت الصراعات بالوكالة القاتلة – بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج السنية الأخرى، من جهة، وإيران من جهة أخرى – بسبب التراكب الخطير للطائفية. ويبدو أنّ الدول السنية والشيعية وعملاءها يعتبرون الحروب في المنطقة جزءاً من صراع وجودي طويل الأمد بين طوائفهم. وفي الواقع، يجري الآن خوض الحرب في سوريا على جبهتين متوازيتين: واحدة بين نظام الأسد والمعارضة السورية، والأخرى بين الطائفتين السنية والشيعية بسبب التهديد الذي تتصور كلّ جهة أنه يأتيها من الجهة الأخرى. كما أن ديناميات مماثلة تحدّد الحروب في العراق واليمن. وقد يكون الصراع بين الفصائل قابلاً للتفاوض، ولكن يكاد يكون من المؤكد أنّه لا يمكن التفاوض في الحرب الطائفية.
من المحتمل أن يكون تورّط «حزب الله» في الحرب في سوريا قد تركز في الأصل على دعم نظام الأسد، ولكن التنظيم يرى الحرب الآن باعتبارها معركة وجودية لمستقبل المنطقة، ومكانة «حزب الله» بداخلها. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يستمر تركيز التنظيم على المنطقة في المستقبل المنظور. وسيواصل «حزب الله» قيادة الفيلق الأجنبي الناشئ للشيعة، بالتحالف مع الميليشيات الأخرى المدعومة من إيران، ذلك الفيلق الذي يعمل على الدفاع عن المجتمعات الشيعية وتوسيع النفوذ الإيراني في المنطقة على حد سواء.
وحتى في الوقت الذي يراوغ فيه بين تورّطه في صراعات العراق وسوريا واليمن، يجب على «حزب الله» أيضاً أن يوازن بين أهدافه الأيديولوجية والسياسية المتداخلة أحياناً في أماكن أخرى. إن تمسّك «حزب الله» بعقيدة ولاية الفقيه الإيرانية، التي ترى أن رجل الدين الشيعي ينبغي أن يكون هو الرئيس الأعلى للحكومة، يجعله ملتزماً بالمراسيم التي يصدرها رجال الدين الإيرانيون. ولكنّ ذلك يعقّد التزامات «حزب الله» الأخرى تجاه الدولة اللبنانية، والمجتمع الشيعي في لبنان، والشيعة في الخارج لأنّ مصالح إيران ولبنان لا تتلاقى دائماً. ولطالما تعامل «حزب الله» مع هذه الالتزامات المتعارضة بمهارة ودهاء، لكنه سيصبح من الصعب على نحو متزايد القيام بذلك، بينما تؤدي الأولويات إلى أخذ التنظيم بعيداً عن بيروت. وفي الواقع، تعاني لبنان من انقسام شديد على أسس طائفية ومذهبية، لذلك؛ عندما يحارب «حزب الله» ضدّ السنة في الخارج، فإنه يقوّض قدرته على قيادة السياسة اللبنانية الداخلية.
وفي الوقت نفسه، يشير تعاون «حزب الله» الحميم مع «فيلق القدس» الإيراني في سوريا إلى أنه لا يزال أقرب إلى مدار طهران، وبالتالي أعمق في الصراعات الدائرة في المنطقة. وكما قال أحد قادة «حزب الله» لصحيفة “فاينانشال تايمز” في أيار/مايو الماضي: “لا يُفترض تسميتنا «حزب الله». فنحن اليوم لسنا حزباً بل نرتدي طابعاً دولياً. نحن في سوريا، وفي فلسطين، وفي العراق، وفي اليمن. ونتواجد حيثما يحتاج إلينا المظلومون… «حزب الله» هو المدرسة التي يطمح كل ساعٍ للحرية إلى ارتيادها”.
ماثيو ليفيت هو زميل “فرومر- ويكسلر” ومدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن. كتابه الأخير هو “«حزب الله»: الأثر العالمي لـ «حزب الله» في لبنان“. وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع “فورين آفيرز”.