تشير زيارة البطريرك الماروني للمملكة العربية السعودية الى ان المملكة تتحول سريعا الى دولة طبيعية. يعكس استقبال الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ العهد محمّد بن سلمان البطريرك الراعي فيما الصليب على صدره وصدور أعضاء الوفد المرافق ان السعودية مصمّمة على الذهاب الى النهاية في محو تلك الصورة الخاطئة التي تصرّ ايران على نشرها عن المملكة لتبرير استثمارها في اثارة الغرائز المذهبية.
ليس قرار المملكة القاضي بالانفتاح على كل الطوائف والمذاهب في لبنان قرارا جديدا. لم تكن السعودية في يوم من الايّام بعيدة عن لبنان واللبنانيين، كلّ اللبنانيين. لم تفرّق يوما بين لبناني وآخر الى انّ حصلت الثورة في ايران ومباشرة آية الله الخميني في العام 1979 عملية “تصدير الثورة” معتقدا ان الدول العربية، على رأسها العراق، ستنهار الواحدة تلو الاخرى في مواجهة المدّ الايراني. انهار العراق بالفعل بعد الحرب الاميركية التي قادتها إدارة جورج بوش الابن والتي كانت ايران الشريك الآخر فيها.
لم يكن لبنان بدوره، بعيدا في ايّ يوم، عن التوجهات الايرانية التي استهدفت طرد أي وجود عربي منه من جهة وتغيير طبيعة بيروت والمدن اللبنانية الاخرى من جهة أخرى. في العام 1986، هوجمت السفارتان السعودية والمغربية في بيروت بهدف اقفالهما. لم يتغيّر التوجه الايراني في لبنان يوما وصولا الى اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير – شباط 2005 وما تلا عملية الاغتيال من جرائم ركزت على لبنانيين شرفاء لعبوا دورا في “ثورة الاستقلال” التي أدت الى خروج الجيش السوري من لبنان.
كان جزء من الحرب الايرانية على لبنان حربا على المملكة العربية السعودية في كلّ وقت، خصوصا انّ المملكة حرصت دائما على ان تكون مع سيادة لبنان واستقلاله ومع عملية إعادة الاعمار التي شملت إعادة الحياة الى بيروت.
بين نشر الخير… ونشر البؤس والدمار والتخلّف، ثمة فارق كبير. هذا هو الفارق بين السعودية وايران.
جاءت زيارة البطريرك الماروني في سياق جهود تبذل منذ سنوات عدّة تصبّ في احداث تغيير جذري داخل المملكة. اخذت هذه الجهود بعدا واضحا مع تولي الملك سلمان الحكم مطلع العام 2015. ليس الملك سلمان شخصا عاديا. تبيّن انّه مختلف وان مسألة الإصلاحات ليست مجرّد زينة، بمقدار ما انّها مرتبطة برؤية شاملة لمستقبل المملكة (رؤية السعودية 2030) وما يحيط بها وطبيعة العلاقات مع الدول الكبرى التي تمتلك التكنولوجيا المتطورة. على رأس هذه الدول تأتي الولايات المتحدة التي دخلت الشركات الكبرى فيها في شراكات مع السعودية.
تعطي زيارة البطريرك اللبناني فكرة عن مدى تقبّل المجتمع السعودي للآخر ومدى الانفتاح السعودي. كان كلّ شيء علنيا. لا تبحث السعودية التي يدير فيها الأمير محمّد بن سلمان الشأن اليومي عن إرضاء احد. تبحث عن إرضاء نفسها وشعبها اوّلا. وتبحث خصوصا عن تحقيق خطوات الى امام لتعويض ما فاتها في السنوات الماضية، خصوصا في تلك الفترة التي كان فيها نوع من المنافسة على من هو مسلم اكثر بين المملكة وايران، وذلك عن طريق ممارسة مزيد من التزمت.
جاءت زيارة البطريرك الماروني تتويجا لنشاطات عدّة قامت بها السفارة السعودية في بيروت. من بين ما قامت به السفارة احياء ذكرى امين الريحاني الرحالة اللبناني الماروني، ابن الفريكة (بلدة في المتن الشمالي)، الذي التقى الملك عبد العزيز خلال احدى رحلاته الى الجزيرة العربية.
لم تكن السعودية بعيدة يوما عن لبنان ولم يكن لبنان في يوم من الايّام بعيدا عن السعودية. معيب ان يوجّه أي لبناني أي اتهامات الى المملكة في ضوء تقديم سعد الحريري استقالة حكومته من الرياض. معروفة أسباب الاستقالة وكان البيان الذي شرح فيه الأسباب في غاية الوضوح. هناك مشكلة ضخمة تهدد وجود لبنان وكل مؤسساته هي سلاح “حزب الله” والتدخل الايراني في الشؤون اللبنانية والرغبة الواضحة في تحويل البلد الى قاعدة للنشاطات الايرانية المختلفة في المنطقة، من سوريا، الى العراق، الى البحرين، الى اليمن…
زار البطريرك الماروني السعودية لتأكيد ان لبنان لن يغيّر جلده. سيبقى لبنان بمسيحييه قبل مسلميه بلدا عربيا وعضوا مؤسسا في جامعة الدول العربية وليس جرما يدور في الفلك الايراني.
بعيدا عن المجاملات وكلّ ما يمكن ان تكون له علاقة بما ورد في كتب التاريخ ودور لبنان في النهضة العربية وفي المحافظة على اللغة، يظلّ ان لا مصلحة للبنان في أي تهجّم على السعودية، خصوصا عندما يكون هذا التهجم من النوع الذي ينمّ عن جهل في الوضعين الإقليمي والدولي وفي مصلحة اللبنانيين.
كان من واجب كلّ لبناني دعم زيارة البطريرك الماروني للرياض، بغض النظر عن شخصية البطريرك والموقف منه. يكفي ان يسأل هذا اللبناني نفسه كم عدد اللبنانيين الذين يعملون في المملكة؟ كم تبلغ قيمة التحويلات الى عائلات هؤلاء في لبنان؟ ما قيمة المساعدات التي وفرتها السعودية للبنان في السنوات الأخيرة؟ كم عدد اللبنانيين المسيحيين الذين جنوا ثروات ضخمة من عملهم في السعودية؟ كم عدد السعوديين الذين كانوا يزورن لبنان وكم كانوا ينفقون فيه؟ كم عدد فرص العمل التي ستتوفر لشبان لبنانيين في حال المباشرة في تنفيذ مشروع “نيوم” في منطقة الحدود السعودية – المصرية – الأردنية؟
في الإمكان طرح مزيد من الأسئلة التي تعطي فكرة عن الحرص السعودي على لبنان، وهو حرص ظهر واضحا عندما بذلت المملكة كلّ ما تستطيع من اجل التوصّل الى اتفاق الطائف في العام 1989.
اظهر بطريرك الموارنة في الرياض الوجه الحقيقي للبنان. لبنان العربي الذي يرفض ان يكون تابعا او امتدادا لحلف الأقليات الذي يمثل احد الرهانات الايرانية في المنطقة.
كان لا بدّ من العودة الى ارض الواقع. قبل كلّ شيء، لم تكن زيارة البطريرك للسعودية مرتبطة باستقالة الرئيس الحريري. كانت الزيارة مقررة قبل أسابيع عدّة من الاستقالة المفاجئة. جاءت زيارة البطريرك لرئيس الوزراء المستقيل لتطمئن اللبنانيين اكثر الى انّه ليس محتجزا. الاهمّ من ذلك كلّه انّها اكدت رفض لبنان بمسيحييه ومسلميه الدخول في لعبة إيرانية تستهدف اخضاعه وتغيير طبيعة المجتمع فيه.
لا يزال لبنان يقاوم. ليس بيان استقالة سعد الحريري، الذي سمّى الأشياء باسمائها، سوى جزء من هذه المقاومة وفعل مقاومة ورفض للخضوع للإرادة الايرانية. أتت زيارة البطريرك التي سبقتها محاولات عدّة لثنيه عنها، لتؤكد ان لبنان لن يستسلم بسهولة. المقاومة لا تزال طويلة. ستكون هناك جولات أخرى. الثابت انّ لبنان لن يستسلم على الرغم من كل الضغوط التي تمارسها ايران وعلى الرغم من ان الدعم العربي له ليس في أحيان كثيرة في المستوى المطلوب مقارنة مع ما ضخّته وما ترال تضخّه ايران من دعم في كلّ المجالات، بما في ذلك المجال الإعلامي من اجل تحوير الحقائق قبل ايّ شيء آخر…