علي يونس ابن الرابعة عشرة ونيف، سيبلغ سن الرشد في السجن بعد مأساة ذهب هو ضحيتها بفعل سلاح متفلت وُضع بين يديه في غفلة من الدولة ومؤسساتها.
حصل الأمر في منطقة زقاق البلاط “الشعبية”، كما هو تصنيفها الحالي بعد سيطرة قوى الأمر الواقع عليها، كما على غيرها من مناطق بيروتية تغيّرت ديموغرافيتها ووظيفتها الاجتماعية وفق مخطط طويل الأجل.
يصعب التحديد اذا ما تمت السيطرة على هذه المناطق في غفلة من الدولة ومؤسساتها أو بتواطؤٍ صار حالة عامة يستخدمها كل فريق سياسي وفق متطلبات مرحلته.
الأكيد يبقى ان الدولة اللبنانية مذنبة بكل مؤسساتها الأمنية والقضائية، والمسؤولين السياسيين كلهم من دون اي استثناء، كل هذه التركيبة التي تتنابذ علناً. نجدها مذنبة، اذا فتحنا ملفات متراكمة لا تختلف عن مأساة علي الذي اقتعلت عائلته من ريفها لتشكل مع عائلات أخرى “شعبية” زقاق البلاط.
ذلك ان ما حصل في تلك المنطقة المتروكة، كما مناطق كثيرة غيرها، هو مأساة ليس فقط في حق الضحايا الذين سقطوا، انما أيضا في حق المراهقين الذين اصبحوا حملة سلاح وليس حملة شهادات وأصحاب كفاءات.
هنا تكمن مأساة القاصر/الضحية. كلّ تفسير ملغوم، يدخل في القرف السياسي الذي يوظف الدم المراق ليهاجم أهدافه كلما سنحت فرصة لذلك. صاحب هذا القرف لا يريد الإقرار بأن المساهمة في القضاء على الدولة يدفع ثمنها كل مواطن، سواء انتمى الى محوره ام الى محور آخر. ولا يختلف نسف المؤسسات البتة عن إهمال الدولة مواطنيها وتركهم إلى قدَر السلاح المتفلت وقضائه.
الصحيح ان الدولة بكل الأحزاب والقوى السياسية الموجودة في الحكم، بمعارضتها الشكلية وموالاتها الشكلية واتفاقاتها الباطنية على حساب المواطنين، هذه الدولة المعطلة وكل من يتولى مناصب فيها ومن دون أي استثناء، هي التي تخلّت عن واجباتها وصلاحياتها، وبالتدريج المتتابع، كما تخلّت عن مواطنيها الذين يحملون هوية لبنانية، اياً كانت طوائفهم ومذاهبهم. كأنها بذلك تفتح الطريق للسلاح غير الشرعي وللأمن غير الشرعي وللقضاء غير الشرعي. وحدها تتحمل وزر ما يرتكبه مواطنون لم يشعروا بأمان الدولة وأمنها، في حق الآخرين وفي حق دولتهم وفي حق أنفسهم في غفلة منها.
كل ما قيل عن سبب الجريمة ليس بيت القصيد. وفي حين تتناقض التحليلات، ألف سؤال وسؤال يثيره الحديث عن فقر العائلة وعدم ترابطها، ومن ثم شراء الاب الفقير بندقية لإبنه القاصر المريض نفسياً والمدمن لعبة دموية الكترونية والمنعزل اجتماعياً، كما يشاع، من دون تحديد ماهية المرض وأسبابه. آخر الأسباب نية الوالد المغدور تطليق زوجته للارتباط بفتاة بنغلادشية.
اذا صح السبب الأخير، ايضاً هي مسؤولية الدولة التي لا تريد التدخل في الأحوال الشخصية للطوائف، ما يسهل مثل هذه الوقائع التي تطيح حقوق النساء والأطفال من دون قوانين مدنية تفرض الحساب والعقاب.
ربما حقيقة مأساة علي يونس، ممنوعة من الصرف الإعلامي. لا أحد يعرف. قد تكشف عنها الأيام. وحتى اذا عرفت بعد حين، فستكون انطفأت نار الخبر الحدثي، وسيكون علي قد ضاع كما سيضيع مراهقون كثر مثله في هذا الوطن المنكوب من أهل الحل والربط فيه.
هذه المأساة ليست حالة أولى او نادرة. من يعش في تلك الاحياء يعرف ان المآسي أضحت خبزاً شبه يومي.
على سبيل المثل لا الحصر، وفي منطقة “شعبية” قريبة بدورها من زقاق البلاط، وقبل فترة، أصيب مراهق بطلقة اخترقت وجهه وأطاحت عينه وتسببت له ببعض الشلل عندما لامست دماغه.
التحقيق الذي قام به مخفر المنطقة “الشعبية”، كما هو تصنيفها الحالي بعد تغيير واسع ومدروس في ديموغرافيتها، أدى الى معرفة مطلق النار، وهو بدوره مراهق كان يعبث بسلاح غير شرعي وغير مرخص له، وانطلقت منه رصاصة أصابت جاره.
انتهى دور المخفر عند هذه المعلومة. وغابت السلطة الأمنية الشرعية، لتتولى سلطة الأمر الواقع القضية، وعبر موفدين منها رافقوا أهل الجاني لترتيب الوضع مع أهل المصاب، بحيث تتحمل عائلة الأول تكاليف العلاج وتتم المصالحة في رعاية السلطة الحاضرة في غياب سلطة الدولة.
لماذا يتولى قضاء حزبي مهمة مثل هذه؟ وأين المحاكم المدنية والجنائية “الرسمية”؟ لماذا أصبح القضاء الشرعي اللبناني فاقداً شرعيته في مواجهة “القضاء “الشرعي” الحزبي؟ لا جواب. لأن الجواب معروف.
فما نعرفه هو ان الدولة بمؤسساتها الأمنية، من قاعدة الهرم حتى رأسه، تواطأت مع قوى الأمر الواقع وسلّمتهم مخافرها وشرطييها، او غيّبت هذه المخافر، لتُطوى ملفات الجرائم في غالبية هذه الحالات، وتحديداً تلك التي تقع في مناطق صارت “شعبية”، وظيفتها لا تتجاوز أحزمة البؤس لغايات مدروسة تحيط بالوسط التجاري لبيروت او حتى ببيروت الكبرى. وما في هذه الاحزمة البائسة مرسوم له الفقر كما الحرمان لتسهيل تطويعه وقولبته ومساعدته بالقدر اللازم لتجييشه واستخدامه، بحيث يكون خزّان الانقلاب على الشرعية التي لم تبذل جهداً للحؤول دون مصادرة من فيه ليستخدم كلما دعت الحاجة والامثلة عديدة.
في الطريق الى هذا الهدف المدروس، يروح علي وامثاله فرق عملة، لأن كل مسؤول ليس سوى حاكم محدود الصلاحية يدير بَلاطه بالسلطة الممنوحة له، وفق التسويات الملغومة، كرمى للكراسي، وبسبب قصر النظر السياسي لدى غالبية المسؤولين.
ودائماً، وعلى شاكلة التركيبة السائدة في رأس الهرم، هناك جرائم بسمنة وجرائم بزيت. أحياناً يرفع الغطاء عن المرتكبين، وفي غالبية هذه الحوادث يبقى الغطاء سميكاً يحجب الأحداث والرؤية والتغطية الاعلامية.
لذا قد ترمى غالبية مآسي الأزقة في أرشيف المخافر، ما لم تحمل في طياتها توظيفات سياسية تبرر جدوى إيصالها الى المحاكم لتخدم قوى الأمر الواقع. وسلطة البَلاط كسلطة الزوج المخدوع طوعاً، لا تريد حتى ان تعلم او تتعلم!
sanaa.aljack@gmail.com
- المصدر: “النهار”