لم أجد أعجب من تسرع بعض ممن يعدهم الناس رموزاً دينية في اتباع الهوى عوضاً عن العقل والاتزان، ولكن الخطأ لم يكن خطأهم، فلطالما كانوا بشراً بثقافة دينية سطحية وبأفق معرفي محدود. لا ننكر أن ركوبهم منابر مراكز الوعظ في مرحلة الصحوة هو ما كرسهم في عقلية الفكر الجمعي كرموز. ولكن نحن كمواطنين من نتحمل مسؤولية اختطاف العقل، الذي تعرضنا له عبر عقود ولا نزال كوننا رضينا أن نتحول من مربع الابتداع إلى مربع الاتباع.
أثار ذاكرتي هذا المساء اطلاعي على تغريدة للدكتور عوض القرني في وسم على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر». وقد كان فيما يبدو الباعث للتغريدة تلك هي استضافة الدكتور عائض القرني لرجل الدين اليمني عبدالمجيد الزنداني في مقر إقامته بأبها ولقد كان نص التغريدة: «ضيفنا في هذه الليلة في أبها العلامة «المجاهد» الشيخ عبدالمجيد الزنداني فأهلا وسهلا ومرحباً به».
المفارقة الباعثة على السخرية في نص هذه التغريدة هي وصف الزنداني بأنه «المجاهد». فما أعلمه جيداً بأنه إبان الاعتداء الحوثي الأول على حدنا الجنوبي عام 2009م، فقد كان الزنداني أول من خرج علينا من الرموز الدينية اليمنية في حفل ديني أقيم في صعدة حينئذ، بخطاب حوى نبرة تصعيدية وموجهة ليدين ما أسماه حينذاك «بالاعتداء على الحدود اليمنية وإرهاب أهالي صعدة الآمنين». وبعد انطلاق عاصفة الحزم ألقى خطبة رنانة حملت عنوان: «لماذا الخليج يحارب اليمن» كانت مثاراً للنقد لدى عديد من المعتدلين.
كما أنه في الأزمة الراهنة التي يعيشها اليمن جراء قيام المليشيا الحوثية المدعومة من طهران بانقلاب على الشرعية اليمنية ومحاولة الاعتداء على حدودنا مجدداً، التزم هو وزمرته من حزب الإصلاح الحياد حتى يتعرفوا على اتجاه الريح ليتبعوا لاحقا المنتصر الذي من خلاله يستطيعون تحقيق مكاسبهم وتحقيق أجندتهم الخاصة.
إلا أنه سبحان الخالق في السماء، قد تحول في ليلة وضحاها من قبل حليفه الفكري عوض القرني إلى مجاهد حقيقي في حين أغفلت جهود «المجاهدين الفعليين» سواء من أبناء الجنوب اليمني أو من رجالات قواتنا المسلحة البواسل الذين استشهد كثير منهم ولا يزالون وهم يعملون على الذود عن حدودنا بكل شجاعة واقتدار.
ولو فكرنا بعمق سأجدني أقول بأن تغريدة عوض القرني ينبغي ألا نكترث لها كثيراً، فالرجل معروف –لدي- بتسرعه وتغليبه لهواه على عقله، شاهدي على ذلك أنه في بدايات الثمانينات الميلادية وحينما كان الحراك الأدبي لدينا في أوجه وتحديداً مع انطلاق حركة الحداثة الأدبية في واقعنا الثقافي السعودي، فوجئنا جميعاً بالشيخ عوض يخرج علينا بكتاب عنونه بـ «الحداثة في ميزان الإسلام»، حاول من خلاله وبكل أسف أن يروج لفكرة أن الحداثة هي فكر مضاد للدين إن لم تكن الكفر بعينه وأن أنصارها في مجتمعنا يسعون جاهدين لإضلال عناصر المجتمع وإبعادهم عن معتقدهم وإفساد دينهم.
الدكتور عوض استغل حينذاك توقد المشاعر الدينية للمكون البشري الاجتماعي في مرحلة ما عرف بـ«الصحوة»، وقد نجح حينذاك وإلى حد بعيد في خلق صورة مشوهة عن الممارسة الثقافية التجديدية. ثم لم يلبث الزمن أن كشف بعد دورته كذب وزيف الصحوة في حين تحول بعض رموزها بين ليلة وضحاها إلى وسطيين دون أن يعلمونا إن كان تحولهم هذا جراء مراجعة فكرية ذاتية أم هناك أسباب أخرى.
إلا أنه من الملاحظ أن ذلك التآلف الفكري واللحمة العقدية بين حلفاء الأمس وأصحاب ذات التوجه الصحوي لا يزال حاضراً، وهو الأمر الذي يدفع بعضهم للتغطية على أخطاء بعضهم ومحاولة تلميع صورهم ولكنني أرجع فأقول بأنه ليس خطأ المتمسحين بالدين ممن يعدون أنفسهم علماء للأمة، ولكنه خطأنا حين نسلم عقولنا لكل من ادعى العلم الشرعي أو ارتقى منابر الوعظ لدينا.
نقلاً عن “الشرق” السعودية