في الظاهر هي حملة ضد مهرجان لليوغا في بيروت، مع اتهامات بأن الشياطين هي التي سيتم استحضارها في هذا الحدث. اكثر من ذلك، دعوات الى صلاة لهطول المطر، ليس لريّ المزروعات وتوفير المياه للشعب المسكين الذي يشتري قطرات لا تكفيه وبأغلى الاثمان، انما لتعطيل تجمع كافرين ارتدّوا عن ديانتهم عبر رياضة جسدية لها فلسفتها الروحية الى وثنية هندوسية أجارنا الله منها.
بداية، لست خبيرة في اليوغا وفلسفتها، كما لست علّامة ضليعة في الفتاوى الشرعية للطوائف اللبنانية. لكني اعرف الله وادّعي ان بيننا صلة ايمان خالصة ومن دون وساطات او مذاهب أو تكفير أو تحريم أو تخويف.
كما أقرأ ان اليوغا كرياضة تدعو الى التحرر من الخوف والبحث عن الراحة النفسية من عمق الذات البشرية، الامر الذي يضرب أركان مؤسسات تعوّدت احتكار السلطة والنفوذ، سواء من خلال التحكم برقاب العباد، أو باسم الله او باسم الوطن او القومية… او… او… او…، كما يضرب كل ما يرتبط بها او يبشر بكونها طريق الخلاص الوحيد والمؤدي الى الفردوس الابدي.
هنا بيت القصيد. فالواضح ان كل أمر يخترق المحظور هو ممنوع، وصاحبه او من يدعو اليه يجب النيل منه بطريقة او بأخرى، لأنه وببساطة يلغي الخوف في التعامل بمنطق مع مؤسسات شمولية تصنّف الناس بين صالح وطالح، أدينية كانت أم سياسية ام عسكرية. يرتفع سقف المحظور بالتزامن مع انخفاض سقف الحرية والتعبير كلما كانت المؤسسة الدينية تختصر في ذاتها السياسة والعسكرة.
السبب ليس الايمان بالدين او العقيدة، وانما الامتيازات، على اعتبار ان الدين او العقيدة يمنحان لمن يعتبرون انهم بإسم ما يدعون الى الإيمان به، يحق لهم احتكار المفاعيل الناتجة منه، من سلطة ونفوذ وأموال منقولة وغير منقولة.
الويل لمن يخرج عن صراطهم المستقيم، او من يكسر الاحتكار في مؤسسات مغلقة على كل ما يحيط بها. مؤسسات تستبيح صفات الالوهة وتضفي على نفسها هالة قدسية، لكنها لا تتورع عن استثمار نفوذ دنيوي مادي، بدءاً بأقساط المدارس وليس انتهاء بمنح صكوك الغفران والدخول الى الجنة في الحروب عبر الاستشهاد.
واذا كان مهرجان اليوغا لهذا الموسم يحمل شعار “خود نفس”، فهو بذلك يضرب كل المؤسسات الشمولية التي تريد ان تكبس على انفاسنا وتحاسبنا على كل نفس نزفره إذا لم يكن لحسابها ويصبّ في مصلحتها.
لا تغفل هذه المؤسسات أي تفصيل مهما بدا تافهاً، ابتداء من الملبس والمأكل والمشرب وليس انتهاء بسلوكيات وطقوس تؤمّن لها وسائل الاسترزاق من جيوب من ينتمي اليها، غالباً بالولادة. فهي تحسب ان ربط الناس بها في كل صغيرة وكبيرة يضمن لها امتيازاتها وسلطتها.
لا يعود مستغرباً ان تتم معاقبة من لا يلتزم الصمت والطاعة لقدس الاقداس حتى لا ترتفع أصوات تعترض على ظلم او اذى او تناقش وتسائل أصحاب الأموال المكدسة من جيوب المؤمنين في أوقاف وصناديق زكاة وخمس وتبرعات دفعت على نية الاحسان للفقراء، وتكفي لتحل نسبة كبيرة من المشكلات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي تكاد تزهق أنفاس الرعية.
المعترضون هم في الغالب “ضالّون”، “كفّار”، “خونة”، و”عملاء” لكل قوى الشر مجتمعة، حتى لو كان الاعتراض على ظلم لا علاقة له من قريب او بعيد بالكفر والخيانة والعمالة والاعداء.
ولا يهتم المستفيدون في هذه المؤسسات اذا كان تشددهم يدفع بالرعية الى مزيد من التشدد التطرف والتجذيف في الدين وصولاً الى استعباد الناس وسفك الدماء. المهم استمرار السلطة والنفوذ، حتى لو اشارت الدراسات الى وجود 150 الف موقع متطرف عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، فالتطرف يخدم الديمومة بشكل او بآخر.
يهدد ديمومة هذه المؤسسات هو ارتفاع عدد الذين يمارسون اليوغا او عدد الذين ينادون بالزواج المدني او يرفضون زواج القاصرات او يطالبون بحماية النساء والأطفال من العنف.
اللافت ان التواطؤ بين المؤسسات السياسية والدينية في مثل هذه المعادلات يأتي كاملاً وكاسحاً، وتحديداً في دول عالمنا الثالث التي تنحدر أكثر فأكثر الى أسفل سافلين، حيث لا غنى للسلطة السياسية عن سوط السلطة الدينية، ولا غنى للسلطات الدينية عن أهل السياسة. فلا عجب ان تم توقيف مارسيل خليفة لأنه غنّى قصيدة “يوسف”، او منع فيلم إيراني معرض لنظام ولاية الفقيه، او تم تخويف المخرج زياد دويري ما ان وصل الى مطار بيروت، او نقل مسؤول ديني في مدرسة تتبع احدى المؤسسات لأنه طالب جهاراً نهاراً مؤسسته بالعودة إلى ضميرها في عملية زيادة الأقساط، فتسبب لنفسه بكفّ يده ولسانه.
كله فدى الامتيازات. وبعد ذلك يسألونك عمّن يحصي عليك انفاسك في بلد الحرية والتعدد.
sanaa.aljack@gmail.com
النهار