إيمانويل ماكرون نجح من الناحية الرمزية في منح دفع للعلاقة الحيوية مع واشنطن، لكن دوام شهر العسل الثنائي سيكون على محك التطبيق والارتباط مع التزامات البلدين الأوروبية والأطلسية والعالمية.
يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصدد كسب رهانه على إعادة فرنسا إلى قلب اللعبة الدبلوماسية الدولية. منذ وصوله إلى قصر الإيليزيه استقبل ماكرون خلال شهرين كلا من فلاديمير بوتين ودونالد ترامب وأنجيلا ميركل وتيريزا ماي وغيرهم. يعتمد “كينيدي الفرنسي” (حسب تسمية الصحافة الأميركية) على دبلوماسية الرموز والمناسبات التاريخية والدبلوماسية الشخصية، ويسابق الزمن كي يعزز موقع فرنسا في مواجهة الاضطراب العالمي. لذا أتت القمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب اختباراً من الدرجة الأولى لأسلوب ماكرون ومقاربته السياسية.
ذاكرة السياسيين قصيرة بشكل متعمد أو غير مقصود، وهي تختلف قبل وصولهم إلى الحكم وبعد تبوئهم المناصب. خلال حملته الانتخابية وبدايات ولايته، من لا يتذكر عبارات ترامب المسيئة بحق فرنسا وخصوصاً بحق باريس، “لم تعد باريس بسبب الإرهاب والاختلاط الثقافي”، ومن لا يتذكر عبارات إيمانويل ماكرون المقتدي بباراك أوباما ضد الجدران والانعزال وحيال موقف ترامب ضد اتفاقية باريس لمكافحة التغيير المناخي. كل هذا تغير وبعد يوم حافل في باريس ها هو الدونالد يصرح أن “باريس مدينة رائعة ومن أجمل مدن العالم” وأن ماكرون “رئيس قوي وقائد حقيقي”.
لكن من أجل الوصول إلى ما يشبه شهر العسل الأميركي- الفرنسي بعد كل الانتقادات والتلميحات المتبادلة، بذل ماكرون كل الجهد الشخصي والمؤسساتي لإنجاح زيارة ترامب في المضمون وقبل ذلك في الشكل: بدأت الزيارة حسب التقليد في مجمع إلانفاليد (المستشفى العسكري التاريخي ومتحف الجيوش وضريح الإمبراطور نابليون) حيث جرت مراسيم الاستقبال، وشهدت عشاء صداقة للرئيسين مع زوجتيهما في برج إيفل واختتمت بحضور العرض العسكري بمناسبة اليوم الوطني. علما أن الرئاسة الفرنسية انتهزت ذكرى مرور مئة عام على دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في أوروبا، كي تدعو سيد البيت الأبيض إلى باريس، تماما كما استخدمت دبلوماسية المناسبات التاريخية والرموز كي تدعو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قصر فرساي لتخليد الذكرى المئوية الثالثة لزيارة القيصر بطرس الأكبر.
وإذا كانت دبلوماسية التقارب الشخصي المتسمة بالمرونة، قد سمحت للرئيس الفرنسي ببناء جسور الثقة مع الرئيس فلاديمير بوتين بعد جفاء بين موسكو وباريس، يمكن القول إن ماكرون استثمر أكثر من أجل كسب ود ترامب وترسيخ العلاقة التاريخية بين واشنطن وباريس، وهذا يندرج في سياق توصيف الرئيس الشاب للوضع العالمي إذ اعتبر في مقابلة حديثة له “إن النظام العالمي الذي نشأ بعد 1945 واستمر بعد سقوط جدار برلين، يشهد أزمة حقيقية في ظل تحديات التغيير المناخي والإرهاب والحروب وعدم الاستقرار”، ولاحظ أنه في موازاة “تصدع الغرب الذي برز بعد الانتخابات الأميركية الأخيرة وتحفظات واشنطن إزاء الدبلوماسية المتعددة الأطراف والتجارة الدولية الحرة، هناك صعود لقوى مثل روسيا والصين لا نتقاسم معها نفس القيم، لكننا ملزمون بالحوار معها”.
هكذا نستنتج أن أولوية الدبلوماسية الفرنسية تبقى الدائرة الأوروبية، وتتبعها العلاقة الخاصة مع واشنطن، وتليها القوى الدولية والمؤثرة في العالم.
لا مكان إذا للمشاعر والأفكار المسبقة عندما تتكلم لغة المصالح وتبرز الطموحات الشخصية بين رجلين مثل ترامب وماكرون (حصل ذلك سابقاً بين فرنسوا ميتران الاشتراكي الماكيافيلي ودونالد ريغان اليميني الليبرالي) اللذين يتشابهان لناحية مجيئهما من خارج النمط الكلاسيكي للأحزاب الرئيسية والتاريخية وكذلك لعامل المفاجأة في نجاحهما. لم تكن المسافة الأيديولوجية بين الرئيسين العائق، خاصة أن دونالد ترامب الذي بدأ مشواره في السياسة الدولية متعثراً ومفتقداً لاستراتيجية واضحة، والذي برز في أدائه نوع من التخبط خلال قمم حلف شمال الأطلسي والدول السبع ومجموعة العشرين، أراد تلميع صورته خلال الفسحة الباريسية وربما “الهرب” من أروقة وكواليس السياسة الأميركية، لأن “روسيا غيت” أخذت تقض مضاجعه (سيكون من المستبعد الذهاب نحو تمرير طلب عزله لأن هكذا إجراءات مدتها طويلة وتتطلب تواطؤ الحزب الجمهوري الحريص على البقاء في الحكم)، وهذا الاهتزاز الداخلي يمس قدرة الرئيس على قيادة سياسة خارجية فعّالة ويترك هامشا واسعا من المناورة عند الأقوياء في الإدارة وخاصة سكرتيري الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي.
أما إيمانويل ماكرون فقد وجد في هذه القمة فرصة لصقل صورته في الداخل والعالم، مع تركيزه على أن مد اليد نحو “الحليف الأكيد” يمثل نوعاً من العرفان بالجميل للصداقة الممتدة بين البلدين عبر التاريخ.
من الناحية السياسية العملية هناك حاجة ماسة من البلدين للتعامل المشترك. بعد البريكست والانتخابات البريطانية الأخيرة التي لم تعزز موقف رئيسة الوزراء، وبعد الجدل بين ترامب وعمدة لندن، لم تعد المملكة المتحدة ممر واشنطن الإجباري نحو أوروبا. وفي نفس الوقت تشهد العلاقات الأميركية- الألمانية تدهورا وعدم وجود كيمياء ملائمة بين أنجيلا ميركل ودونالد ترامب. وهكذا يجد الرئيس الأميركي في نظيره الفرنسي صديقاً يمكن أن يعول عليه في أوروبا وفي الحرب ضد الإرهاب وملفات أخرى. من جهته، يملأ ماكرون الفراغ الأوروبي ويطرح نفسه صديقا لواشنطن وحليفاً لبرلين ومحاورا لموسكو، آملا من خلال هذا الدور الوسيط إبراز قدرة فرنسا على الاضطلاع بمسؤولياتها العالمية.
خلال القمة الثنائية كما خلال المؤتمر الصحافي بدت العلاقات ودية للغاية بين الرئيسين، بالرغم من اختلافات موضوعية لجهة المناخ والحمائية غلفها ماكرون بعدم فقدان الأمل في إقناع واشنطن بالعودة إلى اتفاق باريس عن مكافحة التغيير المناخي. ومن سخرية الزمن وتبدل الظروف أن يبدو الرئيس الفرنسي الشاب الليبرالي الاجتماعي والمدعوم من قطاع الأعمال حاملا للواء العولمة بحضور رئيس البلاد التي قادت قطار العولمة وأخذت الآن ترغب بالخروج منه.
على صعيد الملفات برز التوافق الكبير بخصوص أولوية مكافحة الإرهاب، لوحظ أن الرئيس ترامب لم يعلق لا إيجابا ولا سلباً إزاء اقتراح ماكرون بخصوص تشكيل “مجموعة اتصال دولي- إقليمي” حول سوريا لمواكبة العودة إلى الاستقرار وإنهاء الحرب. وربما يكون السبب انشغال ترامب بالعاصفة السياسية الداخلية في واشنطن. والملفت كذلك بروز توافق حول الملفين العراقي والليبي بينما لم يتم التطرق إلى الأزمة مع قطر.
هكذا نجح ماكرون من الناحية الرمزية في منح دفع للعلاقة الحيوية مع واشنطن. لكن دوام شهر العسل الثنائي سيكون على محك التطبيق والارتباط مع التزامات البلدين الأوروبية والأطلسية والعالمية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس