الأمن العام اللبناني أكثر تحضّراً ومدنية من استخبارات الجيش!
خاص بـ”الشفّاف”
بعد بدء الثورة في سوريا وتحوّل البلاد لاحقاً إلى ساحة حرب بين النظام وحلفائه من جهة وعديد الفصائل والمجموعات الإسلامية وغيرها من جهة أخرى، أصبح دخول الصحافيين إلى سوريا بطريقة مشروعة وقانونية أمراً شبه مستحيل. وقد حاول العديد من الصحافيين الحصول على فيزا سورية، لكن السفارات السورية لم تستجب لهم ورفضت بشكل قاطع التجاوب مع مساعيهم.
يمكن العثور على أدلة من ذلك في الكتب والتحقيقات التي كتبها بعض الصحافيين الغربيين، ومنهم الإعلامية الدانمركية بوك دامسغوورد مراسلة التلفزيون الدانمركي في الشرق الأوسط في كتابها “حيث تبكي الشمس“، حيث انتظرت طيلة أشهر تأشيرة من السفارة السورية في بيروت للدخول إلى سوريا، ولكن دون جدوى. وقد حدث ذلك مع آخرين. كان البديل والحالة هذه أن يقوم أولئك الصحافيون بالتسلل إلى الأراضي السورية بوساطة شبكات المهربين الفاعلة على الحدود بين بلدان المنطقة بعد دفع مبالغ طائلة. وهكذا تحول لبنان وتركيا والأردن وإقليم كردستان العراق إلى مراكز انطلاق للصحافيين باتجاه الأراضي السورية لتغطية الوقائع في الحرب المستمرة هناك.
لبنان في كتاب الصحفي الدانمركي نويبرو
يشغل لبنان في عدة مستويات كامل الصفحات الـ300 في كتاب “الاختطاف.. في زنزانة الإسلاميين” الذي وضعه الصحافي الدانمركي يبيه نويبرو، الذي استقر في لبنان لمدة سنتين ومارس من هناك العمل الصحفي لصالح عدة منابر إعلامية دانمركية وغربية كصحفي حر إلى حين تعرضه للاختطاف في 7 فبراير 2014 ومغادرته الأراضي اللبنانية عقب إطلاق سراحه. لكن اللافت أن تفاصيل عديدة على خلفية تجربة الاختطاف عن الوضع الأمني في لبنان تشكل الجانب الأهم في الكتاب. حيث نقرأ عن مشاركة حزب الله في الحرب السورية حليفاً لنظام الأسد، وتمدد بعض المجموعات الإسلاموية وفي طليعتها “جبهة النصرة” و”داعش” باتجاه المناطق اللبنانية في البقاع المتاخمة لسوريا، ومحاولة محسوبين على “داعش” و”النصرة” تفجير سيارات مفخخة في بيروت في فبراير 2014 والحواجز العديدة المقامة في البقاع اللبناني من قبل الجيش اللبناني وحزب الله، وتحكم الإسلاميين بالحياة في بعض مناطق البقاع إلى جانب تنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات إرهابية في بيروت ومدن لبنانية أخرى. وهذا، مع تهديد “داعش” بتحويل لبنان إلى ساحة حرب أخرى، واستنفار القوى الأمنية اللبنانية والجيش اللبناني في 2014 آخذين بعين الاعتبار جدية تهديدات تنظيم “داعش”. سيما بعد اختطاف “النصرة” أو “داعش” 30 عنصراً من الجيش اللبناني في أغسطس 2014 وقتل الرقيب “علي السيد” ودفن جثمانه في بلدة “فليطا” السورية.
إلى عرسال.. إلى مملكة الخطف
من شقته الصغيرة في بيروت التي كان يتقاسمها مع صديقته “ندى”، ورحلات قصيرة إلى عرسال ومخيمات النازحين السوريين، حاول الصحفي يبيه نويبرو تغطية أوجه من الحرب في سوريا وتداعياتها كصحفي حر، مستعيناً في ذلك بشبكة العلاقات المحدودة التي نسجها في لبنان, إلى جانب معرفته ببعض العاملين الأجانب في مجال الإغاثة، حيث كان لبنان ساحة عمل للعديد من المنظمات الإغاثية المهتمة باللاجئين السوريين ومنها مجلس اللاجئين الدانمركي. لكن واقعة الإفراج عن الصحفيين السويديين نيكولاس هامارستروم وماغنوس فالكهيد الذين جرى إطلاق سراحهما في عرسال في بداية 2014 تجعل وكالة صحفية تدعى ترانستيرا تهتم بمشروع التحقيق الصحفي في ظاهرة الاختطاف المنتعشة في لبنان على خلفية الحرب في سوريا. يطلب مالك ومؤسس الوكالة جوناثان غيسن ورئيس التحرير راي هومر من الصحفي يبيه نويبرو العمل في هذا الملف، فيقرر نويبرو الاستعانة بصديقه الصحفي الفلسطيني – اللبناني “رامي عيشة” الذي لديه شبكة واسعة من العلاقات في “عرسال” ومحيطها للدخول إلى فضاء “صناعة الاختطاف“. وكان نويبرو قد تعرف على الصحفي عيشة عن طريق صديق مشترك هو الخبير الدانمركي في شؤون الشرق الأوسط “ينس ناونتوفت“. وبالفعل يتفق رامي عيشة مع أحد الأشخاص الموجودين لديه على قائمة الاتصالات على اللقاء في عرسال لإجراء سلسلة لقاءات عن موضوع الاختطاف.
يتوجه الإثنان يوم 24 يناير 2014 إلى عرسال حيث يلتقون بأحد الأشخاص، “أحمد. هـ “،الذي يزعم أنه لعب دوراً مهماً في المفاوضات حول إطلاق سراح الصحفيين السويديين. في اللقاء نفسه يلتقون بمجموعة أشخاص آخرين في منزل”أحمد. هـ “، حيث لا يخفون ولاءهم لتنظيم القاعدة.”أحمد. هـ “ يعمل تاجراً، يقول نويبرو أنه رجل ثري ومتنفذ في منطقة عرسال، على علاقة مع “داعش” كما يتضح لاحقاً من فصول الكتاب، وقد لعب دوراً أيضاً في إطلاق سراح مراسل بي بي سي “بول وود”.
بعد الرحلة الأولى هذه، يقرر الإثنان ( نويبرو وعيشة ) يوم 7 فبراير 2014 التوجه مجدداً إلى “عرسال” للقاء آخرين من أجل استكمال تحقيقهما الصحفي، حيث يستأجر نويبرو سيارة من “مكتب تريبل أ” وينطلقان إلى البقاع. لكن بمجرد وصولهما إلى مدخل عرسال تقطع سيارة بيك آب الطريق أمامهم ويقود المسلحون الإثنين إلى جهة مجهولة مقيدين ومعصوبي الأعين.
28 يوماً بين الحياة الموت
طيلة 28 يوماً، كان نويبرو وعيشة رهائن لدى المختطفين، وطيلة 28 يوماً استمرت عملية التفاوض بين المختطفين وعائلة نويبرو مع تهديدات يومية بالقتل وقطع الرأس أو نقل نويبرو إلى منطقة على جبهات الحرب أو بنقله إلى حلب حيث تُنسفُ المفاوضات.
طلب الخاطفون بداية مبلغاً مالياً كبيراً كفدية، لكن الطرفين اتفقا على مبلغ مالي أقل لاحقاً. ولا يُعرفُ على وجه الدقة أين كان الإثنان مُختطفين طيلة الأيام الـ 28، أكانا في الداخل السوري أم في لبنان، لكن المؤكد وفقاً لراوية نويبرو أن السيارة التي قام باستئجارها يوم 7 فبراير قد عُثر عليها لاحقاً داخل الأراضي السورية، في منطقة “يبرود” السورية تحديداً.
الأمر الآخر المؤكد بحسب فصول الكتاب أن الصحفي رامي عيشة لم يكن مختطفاً مثل الدانمركي نويبرو، بل سمح له الخاطفون في إحدى المرات أن يزور أمه وشقيقه وصديقته الصحفية الروسية في عرسال لمدة ساعات، ثم يعود مجدداً إلى غرفة الاختطاف الواقعة في مكان مجهول، المكان الذي لم يستطع نويبرو تحديده. لكن يجزم – كونه كان معصوب العينين – أنها كانت منطقة وعرة جبلية، وأن المسافة تقريباً كانت نحو 15 كم.
هناك إشارات عديدة في الكتاب إلى دور رامي عيشة في واقعة الخطف. إذ يخبر ضباط في الأمن اللبناني (الأمن العسكري والأمن العام) نويبرو أن صديقه رامي عيشة ضالع في مخطط الخطف، وأنه متورط في اختطاف الصحافيين السويديين أيضاً. وهذا ما لا يؤكده أو ينفيه نويبرو في كتابه، لكن إشارات الاستفهام عديدة حول عيشة، أهمها أن الصحفي عيشة ناصح للخاطفين، ولم يتعرض لأي ضرب من ضروب سوء المعاملة التي تعرض لها نويبرو.
يستلم السلفي مصطفىالحجيري نويبرو وعيشة من الخاطفين، رغم أنه خلال مرحلة التفاوض بين عائلة نويبرو والخاطفين يرفض استلامهما. يقدم الصحفي نويبرو الشيخ مصطفى الحجيري كداعية سلفي، وشخصية مؤثرة هو وعائلة الحجيري في عرسال ومحيطها، حيث يدير الحجيري مشفى ومسجداً في عرسال هو وأفراد عائلته. ويسلمهما إلى الشاب الثلاثيني أحمد فيته نائب رئيس بلدية عرسال، الذي يقدم عنه نويبرو صورة إيجابية من خلال معرفة شخصية سابقة لمرحلة الاختطاف، حيث كان أحمد فيته متعاوناً بشكل جيد مع الصحافيين الغربيين، وكان قد خضع لدورات تدريبية مع مجلس اللاجئين الدانمركي في مجال التعامل مع أزمة اللاجئين المتنامية في لبنان. يعود سبب قبول استلام أحمد فيته لكل من نويبرو وعيشة ذلك المساء أن الشخص الآخر الذي كان من المقرر أن يستلمهما قد اعتذر. هذا الشخص الآخر هو رئيس بلدية عرسال ويدعى علي الحجيري، يقول نويبرو أنه شقيق الشيخ السلفي مصطفى الحجيري، وأنه كان جزءاً من مخطط الاختطاف بناءً على معلومات لاحقة في سياق تحقيقات الأمن اللبناني مع نويبرو.
تنتهي محنة الصحفي نويبرو حين يقوم الشاب أحمد فيته نائب رئيس بلدية عرسال بتسليمه وزميله الصحفي رامي عيشة إلى أحد الأجهزة الأمنية اللبنانية، ليصار إلى نقلهما إلى بيروت، حيث يتم تسليم نويبرو إلى السفير الدانمركي في بيروت رولف هولمبو.
شركة الحجيري لصناعة الاختطاف..
في القسم الأخير من كتابه يعرض نويبرو خلاصات توصل إليها من خلال تجربته ومعلومات الصحفي راميعيشة وفي سياق التحقيقات التي أجراها المخابرات العسكرية اللبنانية والأمن العام اللبناني معه على مدار عدة أيام، مع تواجد شخصي من السفير الدانمركي في لبنان رولف هوليمبو.
كان هناك سبعة خاطفين، والملفتُ في ضوء تقاطع المعلومات التي لدى رامي عيشة والأمن اللبناني أن الخاطف الأساسي “أبو عمر” ما كان إلا عبادة الحجيري، نجل الشيخ السلفي مصطفى الحجيري، وهو الشخص نفسه الذي ضلع لاحقاً في اختطاف الجنود اللبنانيين. وكان مثيراُ لدهشة الصحفي الدانمركي نويبرو خلال ازمة اختطاف الجنود اللبنانيين أنه رأى صورة للجنود اللبنانيين في الغرفة نفسها التي كان مختطفاً فيها طيلة 28 يوماً. وهكذا يتضحُ أن أفراداً من عائلة الحجيري يتقاسمون الأدوار في عمليات الاختطاف التي جرت في المنطقة. إذ يشغل عبادة الحجيري دور الخاطف الأساسي والمفاوض عن الخاطفين، ويلعب الأب مصطفى الحجيري دور الشخص الثالث بين الخاطفين وذوي المُختطفين ويستلم أموال الفدية، يساعده في المهمة شقيقه رئيس البلدية علي الحجيري. وإذا كان السلفي مصفى الحجيري يتخفى وراء النشاط الخيري والمسجد والمشفى لفترة زمنية، إلا أنه وفقاً للصحفي نويبرو قد أعلن نفسه في أكتوبر 2014 متحدثاً باسم “جبهة النصرة” في لبنان.
الخاطف الآخر يدعى “أبو حسن الفلسطيني”، يقول نويبرو بناءاً على معلومات الأمن اللبناني أنه فلسطيني لبناني، وقد قُتل في محيط عرسال في أغسطس 2014, وكان الفلسطيني “أبو حسن” يقدم نفسه كشيخٍ سعودي.
الخاطف الثالث يدعى “الشيخ أحمد”، وهو سوري من بابا عمرو، حمص، وقد انتقل مع عائلته إلى منطقة البقاع، ويبدو أنه هناك التحق بالجماعات الجهادية.
الخاطف الرابع يدعى “الشيخ محمد”، واسمه الحقيقي هو “زاهر”، وهو سوري، دون معلومات إضافية عنه.
الخاطف الخامس يدعى الشيخ “خالد”، واسمه في الواقع هو “طارق”، يبلغ من العمر 20- 21 سنة، إسلامي من دمشق، وقد قتل في أحد المناطق شرق عرسال أثناء قصف طيران النظام السوري للمنطقة.
الخاطف الخامس يدعى “الشيخ فاضل”، وهو فلسطيني مقيم مع عائلته في لبنان, حيث عين أميراً لداعش في القلمون لاحقاً.
خلاصة
يتضح من سياق الكتاب وحرفياً في أكثر من صفحة في الكتاب أن الجيش اللبناني يفتقد السيطرة على منطقة البقاع، التي تحولت إلى بؤرة خصبة لنشاط الجماعات الإسلامية التي تعبر الحدود الهشة بين البلدين قادمة من سوريا لمعالجة الجرحى في الطرف اللبناني أو بغية ممارسة ” استراحة المحارب” على الأراضي اللبنانية، أو تحويل المناطق اللبنانية المتاخمة لسوريا إلى ساحة إضافية للحرب ضد حزب الله والنظام السوري. إضافة إلى استغلال المخيمات اللبنانية في عملية تجنيد جهاديين لصالح داعش وجبهة النصرة. وإذا كانت مدينة زحلة وفقاً للصحفي نويبرو آمنة نسبياً، وتتواجد فيها مقرات العديد من المنظمات الإنسانية المهتمة بالسوريين اللاجئين في لبنان على خلفية الحرب الدائرة في سوريا، فإن مناطق بعلبك واللبوة تشهد تواجداً لحواجزمشددة حزب الله اللبناني، وحواجز أخرى للجيش اللبناني في في الطريق بين اللبوة وعرسال، لكنها في توصيف الصحفي الدانمركي نويبرو حواجز هشة وغير مؤثرة، وقلما تدقق في هويات الداخلين إلى عرسال أو الخارجين منها. أما في داخل عرسال فإن الهيمنة للسلفيين والإسلاميين وهم خليط لبناني سوري يدين بالولاء لداعش وجبهة النصرة قبل افتراق الدرب بين الفريقين.
لا يغفل الصحفي نويبرو تقديم صورة عن مقري المخابرات العسكرية والأمن العام اللبناني.
إذ يصف مقر المخابرات العسكرية ومعاملة ضباطه وعناصره بالسيئة للغاية، حيث المقر كمكان سيء جداً، وبإمكان الداخل إليه سماع الأصوات الناجمة عن التعذيب. وقد وجد هناك العديد من الأشخاص الذين ينتظرون التحقيق، وأن غالبتهم كانت سلفية من مظهرها الخارجي. يبدو أن المخابرات العسكرية كجهاز أمني لا يختلف كثيراً في لبنان عن وضع المخابرات العسكرية والأجهزة الأمنية الأخرى لدى الجار السوري، فيما يقدم نويبرو الأمن العام اللبناني بصورة أفضل من المخابرات العسكرية، في طريقة تعامله مع الخاضعين للتحقيق، وأن هذا الجهاز يتعامل بطريقة أكثر تحضراً ومدنية.
* الكتاب: Kidnappet: Jeppe Nybroe
People’s Press / 2015