صارت حرب اليمن منسية. لم يعد من كلام سوى عن مآسي اليمن واليمنيين وانتشار وباء الكوليرا الذي يهدد حياة الآلف منهم في ظل حال من المبالاة لدى المجتمع الدولي ولدى من يدّعون انّهم في موقع المسؤولية في اليمن.
ليس الجمود جمودا سياسيا فحسب، بل هو عسكري أيضا. يظلّ كلّ كلام كبير عن تغيير في خطوط وقف النار القائمة منذ اشهر عدّة، أي بعد تحرير ميناء المخا المشرف على باب المندب من الحوثيين وحلفائهم، من باب التمنيات. هناك استثناء وحيد يتمثل في تقدّم حصل قبل ايّام على جبهة صرواح في محافظة مأرب. لكن الحسم العسكري لا يزال بعيدا، بل بعيدا جدّا.
كان مفترضا، بعد تحرير ميناء المخا الذي يتحكّم بمضيق باب المندب الاستراتيجي، ان تكون هناك خطة واضحة المعالم تشمل متابعة التحرك العسكري لقوات “الشرعية” بدعم من التحالف العربي في اتجاه الحديدة. لم يحدث شيء من ذلك. كذلك، ليس مفهوما لماذا تأجّل إعادة فتح مطار صنعاء، وان وفق شروط معيّنة. هذا يرسم علامات استفهام عدة تدعو الى التساؤل عن الأسباب التي تحول دون تطويق الحوثيين وحلفائهم وسدّ ميناء الحديدة عليهم، علما ان الميناء محاصر من البحر. لكن ذلك الحصار يظل جزئيا ولا يمنع الحوثيين من الاستفادة من مداخيل مالية، هم في اشدّ الحاجة اليها، يؤمنها لهم الميناء الاستراتيجي.
المخيف ان الوضع اليمني يمكن ان يبقى على حاله سنوات. هذا يعني بكل بساطة ان هناك مأساة ضحيتها شعب كامل مرشّحة لان تستمر الى ما لا نهاية. هناك في الوقت الحاضر انسداد على الصعيدين العسكري والسياسي. كلّ ما عدا ذلك بحث عن اعذار لتبرير بقاء الوضع على حاله من جهة وخلق آمال في غير مكانها عن امكان دخول صنعاء من جهة أخرى.
لا شكّ ان “عاصفة الحزم” ادّت، الى الآن، جزءا اساسيا من الهدف المطلوب. قضت على المشروع الايراني الذي استند على الحوثيين (انصار الله) الذين كان طموحهم السيطرة على كلّ اليمن وتحويل البلد الى قاعدة ومنطلق لتهديد الامن الخليجي، خصوصا الامن السعودي. لم يتشكل التحالف العربي بقيادة السعودية من عبث. كانت هناك أسباب تدعو الى التدخّل في اليمن بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء واعلانهم قيام نظام جديد يستند الى “الشرعية الثورية”. حدث ذلك في الحادي والعشرين من أيلول ـ سبتمبر 2014، أي قبل نحو ثلاث سنوات تقريبا. لم يكتف “انصار الله” بالسيطرة على صنعاء في ظل تخاذل “الشرعية” التي لا يزال على رأسها، منذ شباط ـ فبراير 2012، أي منذ ما يزيد على خمس سنوات، “رئيس انتقالي” اسمه عبد ربّه منصور هادي. من الضروري التذكير بانّ الحوثيين انطلقوا في اتجاه الجنوب وسيطروا في مرحلة معيّنة على عدن التي اخرجتهم منها قوات التحالف العربي اواخر العام 2015، مثلما أخرجت “القاعدة” من المكلا في مرحلة لاحقة قبل ان تستكمل السيطرة على المخا في أوائل هذه السنة.
لا يمكن بايّ شكل الاستخفاف بما حققته “عاصفة الحزم” التي عكست في حينه إرادة عربية تقوم على التصرّف بشكل مستقلّ عن الإدارة الاميركية. كان على قسم من العرب في آذار ـ مارس 2015 التحرّك على وجه السرعة كون إدارة اوباما لم تدرك معنى وجود “انصار الله” في صنعاء وانطلاقهم في اتجاه الجنوب اليمني بعد الالتفاف على تعز، حيث الكثافة السكانية في المناطق الوسطى لليمن. استفاد “انصار الله” الى حدّ كبير من الحلف الجديد الذي اقاموه مع الرئيس السابق علي عبدالله كي يصبح لهم وجود في تعز التي تحولت الى مدينة شبه منكوبة.
لا فائدة من نقاش محوره الانسداد العسكري والسياسي في اليمن. لا بدّ من الخروج من الحلقة المغلقة. ذلك ليس ممكنا من دون اعتماد الواقعية والبناء على ما تحقّق حتّى الآن بعيدا عن وهم العودة الى الدولتين المستقلتين في اليمن، أي الانفصال، او الى امكان حكم اليمن الموحّد من صنعاء كما كانت عليه الحال في مرحلة ما بعد الوحدة في العام 1990.
هناك حاجة الى صيغة جديدة لليمن في غياب القدرة على العودة صيغة الدولتين المستقلتين او الدولة المركزية. لا يمكن بدء العمل على بلورة هذه الصيغة من دون “شرعية” جديدة على رأسها شخص او اشخاص لديهم وجود على الأرض اليمنية. ليس هناك من يستطيع الوقوف في وجه رغبة أبناء المحافظات الجنوبية في البحث عن كيفية الاستثمار في وجود رغبة عربية وخليجية في مساعدتهم. هذا يفرض على هؤلاء مسؤوليات كبيرة في طليعتها اخذ زمام المبادرة بعيدا عن اشخاص مثل عبد ربّه منصور هادي لا يمتلكون شرعية في مسقط رأسهم ولا ايّ مشروع سياسي من ايّ نوع باستثناء انّهم يمثلون “الشرعية”.
يحتاج كلّ من يدّعي تمثيل الشرعية الى اعتراف شعبي به اوّلا. هذا من جهة. امّا من جهة اليمن ككل، فاليمن كبلد يستحق اهله العيش آمنين في ظلّ حكم يهتم بالمواطن وليس بالحافظة على المنصب، ايّا يكن ثمن ذلك. لا مفرّ من الخروج من عقدة الوحدة والانفصال ومن عقدة العودة الى صنعاء والتحكّم منها باليمن. ثمّة واقع يمني جديد لا يمكن الهرب منه. الصيغة التي استند اليها علي عبدالله صالح لحكم اليمن الشمالي بين 1978 و 1990 ثمّ اليمن كلّه بين 1990 و 2011 شبعت موتا. انتهت هذه الصيغة في اليوم الذي انقلب عليه الاخوان المسلمون ودارت المعارك من حيّ الى حيّ داخل صنعاء، بما في ذلك في حيّ الحصبة حيث قصر الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر شيخ، مشائخ قبيلة حاشد، الذي شكّل صمام امان للبلد قبل وفاته في آخر العام 2007.
انتهت تلك الصيغة وصارت هناك حاجة الى بديل منها. في انتظار العثور على هذه الصيغة، لا يمكن الّا محاولة إيجاد حياة طبيعية، الى حدّ ما، في المناطق التي تحرّرت من “انصار الله”، خصوصا في عدن. هذه بداية وليست نهاية، لكن هذه البداية تحتاج اوّل ما تحتاج الى رجال جدد يمتلكون حدّا ادنى من الاعتراف الشعبي بهم، اقلّه في المناطق التي خرج منها الحوثيون. هؤلاء، أي الحوثيون، يبقون، مهما قيل ويقال فيهم، جزءا من المكوّن اليمني. صحيح ان ليس لديهم أي مشروع سياسي او اقتصادي او حضاري باستثناء الشعارات المستوردة من ايران، الّا ان الصحيح أيضا ان ليس في الإمكان الغاءهم. لا احد يلغي أحدا في اليمن.
رحمة باليمن واليمنيين، لتكن هناك نقطة انطلاق تؤدي الى قيام مناطق يمنية، واو محدودة المساحة، يمكن العيش فيها بامان ولو نسبيا في انتظار اليوم الذي يظهر فيه رجال يتجاوزن عقد الماضي، بما في ذلك عقدة لبس البذلة التي كان يرتديها علي عبدالله صالح.