قبل سنوات، أصبحت بعيدة الآن، لعب فريق قطري مباراة في كرة القدم، في العاصمة الفيتنامية هانوي، وفي مقاعد المتفرجين ظهرت أعداد كبيرة من مشجعي الفريق، وكان هؤلاء يرفعون العلم القطري، ويرتدون قمصان قصيرة الأكمام (تي شيرت) طُبع عليها اسم قطر، بالإنكليزية، طبعاً.
أثارت صور المُشجعين تساؤلات كثيرة: هل سافر مواطنون قطريون لتشجيع فريق بلادهم؟ أم تكفّلت دولتهم بتسفيرهم؟ وهل وقع الفيتناميون في غرام الكرة القطرية، فجأة؟ وعلى غرار أشياء كثيرة وثيقة الصلة بالظاهرة القطرية، كانت الحقيقة في مكان آخر، واتضح أن مشجعي الفريق القطري، الذين رأيناهم في الصور كانوا في حقيقة الأمر طلاباً فيتناميين، نال كل واحد منهم خمسين دولاراً مقابل رفع العلم، وارتداء التي شيرت.
في هذه الحادثة ما يمثّل مفتاحاً لفهم وتحليل الظاهرة القطرية لا في الرياضة وحسب، ولكن في كل شيء آخر، أيضاً. فالحقيقة، دائماً، في مكان آخر، والمهم ما يرى الناس في الصور. على خلفية هذه المعادلة يمكن تفسير كيف وقعت قطر، أخيراً، في شر أعمالها.
في زمن كرة القدم، والمباراة في فيتنام، كانت الرياضة وسيلة قطر لشراء وتكريس صورتها وحضورها في العالم. وثمة ما لا يحصى من الأمثلة للتدليل على أمر كهذا. ففريق الربّاعين القطريين، مثلاً، المُكوّن من ثمانية لاعبين، فاز بالبطولة العربية، في أحد السنوات، وتناقلت الصحف ووكالات الأنباء أسماء الفائزين، وصورهم. كانت الأسماء عربية، وأقرب إلى الأسماء الشائعة في الخليج. وطالما أن الحقيقة في مكان آخر، فقد كان ستة من هؤلاء ربّاعين بلغار، اشتراهم القطريون، ومنحوهم أسماء وجوازات سفر قطرية. ولا مشكلة في شراء اللاعبين، ولكن المشكلة في تمويه هوياتهم، تخيّلوا، مثلاً، أن يصبح زيدان نجم كرة القدم الفرنسية فرانسوا، أو جاك، لتمويه اسمه العربي.
لا يتسع المجال، هنا، لمزيد من الأمثلة، بل القول إن شراء المكان والمكانة بهذه الطريقة، حتى وإن كان مريباً، لا يُلحق الأذى بأحد، بل ربما يُحرّض على قدر من الفكاهة. ولكن ما حدث في الرياضة حدث، أيضاً، في كل شيء آخر، خاصة في السياسة، وهنا المشكلة.
السياسة أكثر تعقيداً من الرياضة بالتأكيد. وقد ذلل القطريون عقدة السياسة بسياسة الوساطة مدفوعة الأجر، ومارسوا هذا الدور في كل مكان ظهرت فيه مشاكل داخلية، أو خارجية، لإصلاح ذات البين، فدفعوا من أموال لا تأكلها النيران، لأطراف الصراع ليصبحوا طرفاً في الحل: في ليبيا، ولبنان، وفلسطين، والسودان، واليمن، وأماكن أخرى، وهذا كله قبل الربيع العربي.
ففي قضية الممرضات البلغاريات، مثلاً، طلب القذافي من ساركوزي، الذي أراد أنه يكون وسيطاً، ملايين الدولارات مقابل إطلاق سراحهن، ولم يكن في وسع الأخير إقناع الدولة الفرنسية بدفع الفدية، فتطوّع القطريون، ودفعوا المطلوب لتمتين العلاقة مع الرئيس الفرنسي الجديد، وتخليص “الأخ” معمّر من ورطة سياسية ودبلوماسية شائكة.
ومع سياسة الوساطة، تجلى ميل للجمع بين المتناقضات، كأن تكون مع أميركا، وإيران، ومع إسرائيل وحماس وحزب الله، في الوقت نفسه. في حرب العام 2006 في لبنان فرض الإسرائيليون نوعاً من الحظر الجوي على لبنان، ولكن حاكم قطر نزل بطائرته في مطار بيروت رافعاً شارة النصر، تعبيراً عن تأييده للمقاومة، بعدما حصل على إذن خاص من الإسرائيليين. وفي عراق ما بعد الاحتلال، قذف عراقي غاضب الرئيس الأميركي بوش بالحذاء، فتلقى مكافأة من حاكم قطر، الذي قاد الأميركيون الحرب على العراق من مقر القيادة المركزية، في قاعدة العيديد، في بلاده.
المهم، كانت قطر مركزاً تقليدياً للإخوان المسلمين، حتى قبل خروج الإدارة البريطانية منها، وإعلان الاستقلال. وقد نشأ هذا المركز، على الأرجح، في سياق العلاقة الخاصة التي ربطت جماعة الإخوان ببريطانيا. وفي آخر معارك الحرب الباردة في أفغانستان، التي شهدت ولادة القاعدة، أيضاً، تعززت علاقة المركز القطري لا بالإخوان وحسب، ولكن بكل ما يمت بصلة للإسلام السياسي، أيضاً، الذي صعد نجمه منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي.
كل ما حدث في هذا الشأن معروف، العلاقة بالقاعدة، وتمويل وإنشاء جماعات إرهابية، ولكن ما غاب عن الأذهان أن صنّاع السياسة القطرية مارسوا وظيفة المركز، وما استدعى من أدوار، في سياق الاستراتيجية الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر، بالطريقة نفسها التي حكمت سلوكهم في مباراة كرة القدم في هانوي، وفي المسابقة العربية للربّاعين.
وكما دفعوا لطلاّب الجامعة في هانوي لرفع أعلامهم، دفعوا بالبعض، ودفعوا لهم، لممارسة ما يشبه هذا الدور على شاشة “الجزيرة”، لرفع رايات كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، لا إيماناً بقيم كهذه (حكموا على شاعر في بلادهم كتب قصيدة لم تعجبهم، بالسجن مدى الحياة) بل لأن فيها ما يخدم الإسلام السياسي، ويخدم السياسة الأميركية، أيضاً. وأغلب هؤلاء كانوا من الفلسطينيين، والمصريين، والسوريين. بعض المصريين، والسوريين، أعلن التوبة، وخرج من اللعبة القطرية، وبين الفلسطينيين من أُخرج، والبعض الآخر كان الوجه المُعلمن للقرضاوي. دم ملايين النازحين، والقتلى، والمكلومين، في بلاد العرب، وأماكن مختلفة من العالم، في أعناق هؤلاء.
أخيراً، بعض أعداء قطر، هذه الأيام ليسوا أفضل منها، ولكنها ذهبت، في لعبة الدكتور جايكل والسيد هايد، أبعد من الجميع. وقعت في غرام شهوة المكان والمكانة، فلعبت بكل شيء وعلى كل شيء، وكانت كمن يسعى إلى حتفه بظلفه. قضاء وقطر، أليس كذلك؟
khaderhas1@hotmail.com