الحريّة تدريبٌ على التعلُّم..
تدريبٌ على الصبر والمواجهة والإبداع والخَلق، وتدريبٌ على التفنّنِ والتفلسفِ والتفكّر..
الحريّة، أنْ تكونَ مُبصراً في واقعٍ يعجُّ بالعميان..
الحريّة، أنْ تكونَ ذكيّاً في أمّةٍ تُمجّد الغباء والأغبياء..
الحريّة، أنْ يكونَ التخلّف موجوداً، ولكنْ، هذا شأنه، لا يستطيع أنْ ينالَ منكَ شيئاً..
الحريّة، أنْ تكشفَ عن براعة الحياة في متناقضاتها وصعوباتها، وتتعامل معها مُدركاً لِذاتكَ وتفرّدك، لكي تستطيع أنْ تخرج بِأكثرِ من معنى وفكرة وطريق..
الحريّة، أنْ تنهضَ في كلّ صباحٍ إلى صلاتكَ خاشعاً بين عينيّ حبيبتك، وأنتَ لا تطمعُ في أجرٍ أو جائزة..
الحريّة، أنْ تكونَ في سلوككَ صادقاً ووقوراً ووحيداً أيضاً، وأنتَ ترى غيركَ يحصِد مجدهُ بالأكاذيب والاستعراضات والنفاق والتملّق..
الحريّة أنْ تملكَ حريّة تحرير عقلك من استبدادهِ، لكي تستطيع أنْ تضعَ المعنى في مخاض الحقيقة. فالعقل المحكوم باستبداد التفسير القطعيّ والنهائيّ، يجرُّ المعنى معه إلى هاوية الانسداد والانغلاق والتوحَّش، إنّه لا يقبل إلا المعنى الذي يتوافق مع تفسيراته القطعيّة والنهائيّة. بينما في رحابة العقل المتحرّر من أحكامهِ الاستبداديّة، يأخذ المعاني إلى سفوحٍ مشرعةٍ على كافّة الاحتمالات والتفسيرات والتأويلات والاستنطاقات والتخلّقات. إنّه يمنح المعاني جوهر الحقيقة وانفتاح التفسير وجمال المغامرة وطلاقة الفكرة. فالمعاني الباهرة والمضيئة إنّما تتخلّق استنطاقاً وجمالاً وتفنّناً في مناخاتها المتحرّرة من استبدادات العقل القطعيّ والاطلاقيّ والانغلاقيّ..
الحريّة، أنْ تتدرَّبَ طويلاً على فنّ التساؤل، فالأجوبة عموماً لا تمنحكَ حريّة المعنى، لأنّها تضع المعاني في قوالبها النهائيّة والجامدة أيضاً، ولأنّها لا تعود بكَ مجدّداً إلى دكّة الأسئلة، فالطريق معها يرجع بكَ إلى الطّريق ذاته. ولكنْ في شساعة التساؤل وفنونه المتمرَّدة والجريئة والمتنوّعة والخلاّقة والفسيحة، تملكُ موهبة الانتقال الحرّ من فكرةٍ إلى فكرة ، ومن سؤالٍ إلى سؤال، ومن معنى إلى معنى، من دون أنْ ترسفَ في أغلال التردّد والتراجع والارتجاف. إنّه التساؤل الذي يمنح وجودكَ التساؤليّ حريّة المعنى، ومعنى أنْ تكونَ حرّاً في سؤالك واستنطاقكَ ومعانيك. هذا التساؤل الناهضُ الخلاّق يحرّركَ من قيود الخوف. الخوف الذي يمنعكَ من الخوض في غمار المعاني الممسوسةِ بالتحرّر والغواية والانفتاح، ويحبس المعاني في عتمات الانغلاق والجمود والتزمت، وهو الخوفُ ذاته الذي يجعلكَ تعاقر التكرار بعد التكرار، خوفاً من الجديد والمغاير والجريء وغير المألوف من المعاني والأفكار والتخلّقات والتفسيرات. إنّه التكرار الذي يفقد دهشة المعاني، لأنّه واقعٌ تحت قبضة السائد والمطلق والجامد والنهائيّ والمكبوت والمنغلق..
مع حريّة المعنى ثمة معاناة، لأنّها الحريّة التي تعكس جهد الذات في أنْ تكون معانيها الخالقة والملهمة، وفي أنْ تكون حريّتها وكينونتها وحقيقتها. إنّها الحريّة التي لا تخلو من معاناةٍ ملهمة، تلك المعاناة التي تجعلكَ أنْ تكونَ أنتَ في تساؤلاتكَ وهواجسكَ وشكوككَ واستنطاقاتكَ وكلّ توجّساتك وقلقكَ، وحتّى في توجّعات هذيانك. وحينما تعاني تساؤلاتكَ وهواجسك، وتعايشها بِذات القدر من تفكيركَ وحريّتكَ وعشقكَ أيضاً، تستطيع أنْ تمنح المعنى حريّته الكاملة، وتستطيع أنْ تكونَ في معانيكَ حرّاً منطلقاً، مستلهماً من تجربتكَ الذاتيّة هذه، وعيّ المعاناة وصلابة الفكرة وبصيرة الضوء..
في نظري، المعاني الخلاّقة والملهمة والمتوهّجة، تشبه المسافات في قربها وفي بعدها، وفي تعرّجاتها ومنحنياتها، وفي صعودها ونزولها. إنّها تذهبُ بِالإنسان بعيداً في استنطاق مكوناتها واستيضاح مضامينها، وفي أحيانٍ أخرى، قد تأتي إليه قريبة جداً، إلى الحدّ الذي يخالها إنّها مسكونةً في أعماقه وبين أعطافهِ وفي تجاويف ذاكرتهِ. وفي مرّاتٍ كثيرة، قد تأخذهُ هذه المعاني إلى تعرّجاتها ومنحنياتها، وفي هذه الحالة قد يجد الإنسان نفسه وقد انساقَ إلى مغامرةٍ مشوّقة، يخوض غمارها مندفعاً بالمجازفة والاشتهاء والجرأة والتجريب والاكتشاف، لأنّه يعتقد أنّ المعاني هنا دائماً ما تقبع خلف الهاوية وما بين المتاهات وفي الزوايا الحادَّة، وعليه أنْ يكون مغامراً ومُغرماً في الوقتِ ذاته بمغامرتهِ هذه. إنّه هنا يسعى في رحاب الحريّة، حريّة المعاني وحريّة ذاته الحرَّة الطليقة، في ركضها خلف ما يجعلها على قيد اللذة العليا في استقصاد الأفكار والتساؤلات والومضات والأنساق، وما يجعلها على قيد التعالق الحميميّ مع تنويعات الحياة الرحبة الفسيحة..
وما أروع تلك التجلّيات الباعثة على التفكّر والتأمّل والتصوّر، وهيَ تحلّقُ في امتدادات المعاني الحرّة، تستلهمُ منها تعالقاتها البديعة مع الحياة والأفكار والفلسفات، وما أجملها في تماثلاتها الناطقة مع أكثر جوانبِ الحياة اشراقاً وتلوّناً وإبداعاً. فالحياة تبدو فاتنة ومغرية على الاستحواذ والتعايش والتواصل، وفي الوقتِ ذاته باعثةٌ على الخَلق والإبداع والتفلسف، حينما تتجلّى وحياً في حريّة المعنى، حيث تكتسبُ هنا معانٍ ساحرة وملهمة، لأنّها تمتدُّ في أشيائها الكثيرة إلى آفاقٍ آسرة، وتكشفُ بِبراعةٍ عن جوانبها الساطعة والمضيئة. وكم تصبحُ ناطقة ومتحركة ومتفتّحة حين تبعثُ حرَّةً في تجلّيات المعاني الحرَّة، تتخلّقُ رحابةً واتساعاً وتنوّعاً في المعاني الحرَّة للحياة والأفكار والأشياء والتفسيرات. إنّها المعاني الخارجة على قيود المعاني الخانقة والمستهلكة والهادمة والقامعة، تلك المعاني التي تستبشعُ في الإنسان جمال التنوّع والابداع والتفرّد والتحديق، وتستبشعُ فيه حريّة التفكّر والاختيار والقرار..
الحريّة، أنْ تكونَ واثقاً جداً من قدرتكَ على الشعور بِحريّتك، وحدهُ الشعور هذا، يمنحكَ جمال الاقتناع. إنّه شعوركَ الواثق الذي يستفِزُّ فيك شعور القدرة، من أجل أنْ يبقى مستيقظاً ومستنهضاً وواعياً لقدرتهِ الدائمة على الاحساس بِحريّتهِ، وفقاً لمنطوقاته وتفسيراته وافهاماته حول الأفكار والمعاني والحياة. وهوَ الشعور ذاته الذي يضعكَ في رحابة الاقتناع، مستشعراً جماله هذا، بِمزيدٍ من الاهتمام والتفحَّص والنقد والمراجعة. إنّها القدرة التي تخبركَ دائماً بِأنّكَ تمضي إلى مسعاكَ مقتنعاً بِرغبتكَ في أنَ تكونَ في معانيك حرَّاً، ومتحرّراً، وباحثاً عن جدوى ما تريد أنْ تفهمه وتتعالق معه، وما تريد أنْ ترافقهُ ناقداً ومستنطقاً في أفكاركَ وتأملاتكَ وفي هواجسكَ وتوجّساتكَ وتفلسفاتك أيضاً. وليسَ أجمل من قدرتكَ هذهِ، التي تجعلكَ متبصّراً ومتفكّراً، ومستدعياً شعوركَ الحرّ في معانيك الحرَّة ..
وأنْ تكونَ حرَّاً، لا يعني إلاّ أنْ تملكَ إرادةً خالقةً للمعنى، المعنى الذي يبعثكَ خالقاً لحريّتك. وهو المعنى ذاته الذي تشعرُ معه بوجودكَ خالقاً في معانيكَ الحرَّة. فالمعاني أنتَ تخلقها، وتمنحها نبض التجربة وألق الوجود، لأنّك تملكُ إرادتكَ الحرَّة، وتملكُ إرادتكَ هذه في صياغة معانيك بِالطريقة التي وجدتَّ فيها نفسك حرَّاً وسليماً في أعماقكَ ومتعافياً من ترسَّبات المفاهيم البائدة. وهيَ إرادتكَ الحرَّة في استخدام تفكيرك، وفي استدعاء قراركَ وتحديقكَ ونقدكَ ورؤيتك. إنّكَ هنا تخلق المعنى، وتخلقُ للمعنى معنى أيضاً، وتملكُ أنْ تكونَ جديداً دائماً في معانيك، وشغوفاً في ارتياد المعاني الجديدة. إنّه شغفكَ الوافر بالحركة والإبداع وغواية المعرفة، والمسكونُ بِفنّ صناعة المعنى. فالشغف في تألّقاته الشعوريّة والفكريّة، يجد في صناعة المعاني الحرّة متعتهُ الفائقة ولذَّته التفكّريّة، ويجد أيضاً في صناعة المعنى الحرّ، فنَّه الذي يستمتع به ويتخلّق فيه، ويخوض معه معاركهُ الفكريّة مع الأفكار والحياة والمفاهيم..
وحينما تكونُ حرَّاً في معانيك، تستطيع أنْ تعانقَ هامة المعاني، وهيَ تحلّقُ هناكَ بعيداً في السفوح المشرعة على الضوء والألق الطليق، والمشرعة على رحابة الاستنطاقات الخلاّقة والتأويلات المتحرّرة من أغلال الأسبقيّات اليقينيّة. إنّكَ هنا في هذا المسعى الطليق، تغلقُ خلفكَ كلّ أبواب المعاني الخانقة والهادمة والضيّقة، وتفتحُ أمامكَ أفقاً لا ينتهي إلى انسداد، وطريقاً لا يتلعثمُ في العتمة، ومسلكاً لا ينكفىء على نفسه، وتفكيراً لا يقعُ في براثن المحرَّمات الثقافية، وتفرُّداً لا يسير مع القطيع، وتجربةً لا تذوب في الســـائد..
الحريّة، أنْ تملكَ الجرأة، جرأة المعرفة والاختلاف والاختيار والتفكّر، وجرأة اجتراح المعاني المدهشة والمغايرة والجديدة. إنّكَ لن تملك الجرأة في كلّ ذلك حينما لا تستطيع أنْ تخلق خياراتك الحرَّة، ولكي تصنعها وتخلقها وفقاً لمعانيك الحرّة، ووفقاً لإرادتكَ في اجتراح المعاني، تحتاج إلى حريّتك في استخدام كلّ ما يبعثكَ على التفكير الحرّ والتأمل الملهم. بالتأكيد هيَ حريّتك العاشقة للمعرفة، والمفتونة بالتنوّع المعرفي الرحب. وحدها جرأتك الخلاّقة هذه على المعرفة، هيَ حريّتك الصانعة لاختياراتك الحرَّة في فهم المعاني واجتراحها، ومنحها في الوقتِ ذاته حريّتها في التفسير والتبصَّر والتحديق والتأويل..
وحريّتكَ هذه، قادرةٌ على تحويل كلّ ما لديكَ من أفكارٍ وهواجسَ وقلقٍ وشكٍّ إلى معانٍ مضيئة ومتجدّدة وناطقة. لأنّها حريّتكَ الخالقة، الحريّة التي ترى في أفكاركَ وفي كلّ ما يعتريك، منافذَ للتأمّل والتبصّر والتفكير، وترى فيها دروباً شاسعة، تسلكها مدفوعاً بِشهوة الخَلق ومتعة الإبداع وفتنة التفسير وجمال التغيير. إنّها حريّتكَ التي ترفض الاقتعاد في محابس الانغلاق والجمود، وترفض أنْ تكون في أفكارها ومعانيها خاضعة للمتداول من التفاسير والمنطوقات واليقينيات. فالأفكار الجامدة المتصلّبة في معانيها الساذجة والمهترئة والصدئة والمتهالكة، تساوي مقدار ما فيها من خوفٍ وانهزامٍ وتراجعٍ وتقوقع، إنّها لا تملكَ جرأة التخلّق في مخاض المعرفيات الناقدة والشجاعة والمغايرة، لأنّها تفتقد حريّتها المعرفية، وحريّتها في ارتياد المعاني المغايرة والمتجدّدة، وفوق كلّ ذلك، خاليةٌ من القدرة على امتلاك موهبة المغامرة في معركة الأفكار والرؤى، بينما تلكَ الأفكار المفعمة بالتخلّق والحريّة والنقد والمعاني الحرَّة، تساوي مقدار ما فيها من انعتاقٍ وجرأةٍ ومغامرةٍ وتفكّرٍ ومعرفة..
الحرية، تعني أنْ تملكَ رصيداً وافراً من الصبر والتجربة والمعرفة والشغف والمحاولة أيضاً، وأنتَ تُعاين خساراتكَ هنا وهناك في واقعٍ لا يكترثُ أبداً، لِضرورة الإحساس بجمال الحريّة في المعاني والأفكار والتساؤلات والاستنطاقات، ولكنّكَ مع ذلك تمضي بعدها إلى مسعاك، مشحوناً بِرغبتكَ الشغوفة في اقتناص بدائع المعاني الحرَّة، ومدفوعاً بالتّعالق الجماليّ مع كلّ ما يجعلكَ على قيد المعاني الوامضة بالحريّة والرحابة والجرأة والإنارة..
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي