ترجمة: فاخر السلطان
حينما نردّد كلمة الدين، فإنها تشير إلى ثلاثة معان متفاوتة:
– النص المقدس، وهو بمعنى نص القرآن والإنجيل والتوراة ووو…
– فهم وتفسير المؤمنين عبر التاريخ للنص المقدس.
– سلوك المؤمنين وتاريخهم استنادا إلى فهمهم وتفسيرهم للنص المقدس.
فحينما يقرأ المؤمنون النص المقدّس ويفسّرونه، تولد صور مختلفة عن الإسلام وصور مختلفة عن المسيحية وصور مختلفة عن اليهودية. كل هذه الصور المختلفة أدت إلى ظهور ثلاثة أطياف كبيرة من المؤمنين، هي: المحافظين، الأصوليين، التجديديين.
ومما لا شك فيه أن الأديان لم تكن هي المؤثّر الوحيد في تشكيل هوية الفرد، فالهوية تتشكل عبر مصادر عدة، والدين هو أحد مصادر تشكيلها. وحينما ندقق النظر في تاريخ المسلمين والمسيحيين واليهود، لابد أن نميّز بين السلوك “الناتج” عن فهم النص الديني، والسلوك “المخالف” لأوامر النص الديني.
وفيما يتعلّق بالنص المقدس، أشار كثيرون إلى أن النص القرآني يدعو بصورة رسمية ومباشرة إلى العنف وإلى خوض الحروب، وأن الإنجيل والتوراة لا يشتملان على ذلك. في هذا الإطار، يمكن المقارنة بين النصوص الثلاثة.
فالأديان الثلاثة هي أديان إبراهيمية. والقرآن يقول في آيات متعددة بأنه مصدّق لما جاء في الإنجيل والتوراة، وبأنه استمرار لهما. لذلك، يُصعب فهم القرآن دون فهم الإنجيل والتوراة، ودون فهم العلاقات التي كانت تربط نبي الإسلام بيهود ومسيحيي الجزيرة العربية.
وقد أدخل نبي الإسلام في القرآن الكثير من القصص والأوامر والنواهي التي وُردت في الإنجيل والتوراة، مع بعض التعديلات عليها. وهذه التعديلات أضافت مزيدا من العقلانية إليها وقلّلت من صور العنف فيها. لكن بشكل عام، يُعتبر القرآن نصا متعلّقا بعصر ما قبل الحداثة، ويجب الحكم عليه في سياق نشأته.
حين الحديث عن العنف في النصوص الدينية المقدّسة، فإن المقصود من ذلك هو الأوامر والعقوبات والأحداث الواردة في النصوص والتي يعتبرها الإنسان الحديث نوعا من العنف استنادا إلى مبادئ حقوق الإنسان الراهنة، في حين أن تلك الأوامر والأحداث والعقوبات كانت تُعتبر في زمانها جزءا من أعراف المجتمع. على سبيل المثال، استمرت العبودية ضد المرأة حتى القرن الـ19، وحصلت النساء على الحقوق الخاصة بالرجال بعد نضال طويل للحركات النسوية. لذلك، لا يمكن أن نتوقّع من القرآن والإنجيل والتوراة ألّا يكونوا ذكوريين، أو أن يمتلكوا نظرة نسائية تجاه العالم وتجاه البشرية، أو أن تنتفي من نصوصهم الأحداث والأوامر التي تُعتبر عنفا في العصر الحديث.
كيف استطاع المسيحيون واليهود أن ينتزعوا العنف من النصوص المقدسة؟ وهل يستطيع المسلمون أن ينتزعوا العنف من النص القرآني، أو أن يضعوا هذه النصوص جانبا؟
لا يمكن أن نعتبر بأن دين الإسلام ودين المسيحية ودين اليهودية اليوم هي ما جاء به الأنبياء محمد وعيسى وموسى. فالأديان الثلاثة شُيّدت مجدّدا على يد أنصارها عبر التاريخ، ولا يستطيع أي دين أن يكون اليوم نسخة طبق الأصل من الدين الذي جاء عبر التاريخ. وكل دين اصطبغ بالصبغة الثقافية للبلد الذي كان يصل إليه. أو بعبارة أخرى، ساهم النمو المعرفي والتكنولوجي للبشر في تغّير فهم المؤمنين للنص المقدّس.
لذلك، ساهمت عملية التحديث، من خلال تفاعلها المزدوج مع الدين، في تغيير المسيحية واليهودية، وكذلك في التأثير عليهما حسب تعبير ماكس فيبر في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
هناك ادّعاء لا يمكن قبوله ويردّده البعض، وهو أن عالم ما قبل الحداثة كان يستند إلى مصدر واحد هو الدين، بمعنى أنه لم يكن هناك شيء في الحياة خارج نطاق الدين. ورغم إني لا أريد في هذا المقال أن أثبت صدق أو كذب هذا الإدّعاء، إلّا أنه مع بدء العصر الحديث ظهر منافسون جديّون فتشكّلت ساحات مستقلة عن الدين وبدأت الأديان تتراجع في مختلف المجالات.
واعتبر علماء اجتماع، مثل كارل ماركس وماكس فيبر واميل دوركهايم، بأن العصر الحديث هو عصر انتشار التفكيك. ففي ظل عملية التفكيك، انفصل الدين عن السياسة وعن الاقتصاد وعن الثقافة (التي هي أحد نتائج التفكيك) وحتى عن العادات والتقاليد. وانفصلت المؤسسة الدينية عن المؤسسات الأخرى.
كذلك تم في هذا العصر إنتاج أفكار جديدة، مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية والتعددية والتسامح والنسوية والعلمانية، فانتشرت وأصبحت مشروعة. فأصبح الدين في مواجهة مع هذه الأفكار، ورأى المؤمنون بأنهم مجبرون على إعادة قراءة النص الديني المقدس. لذلك، تشكّلت قراءات جديدة للنص المقدس.
فيما يتعلق بالإسلام، لابد أن ندرك بأن القرآن يفتقد للكثير من العنف الموجود في الكتب المقدسة. فنبي الإسلام أدخل الكثير من التصحيح على القصص التاريخية وأحكام العقوبات الواردة في التوراة وقلّص من صور العنف فيها ثم بعد ذلك أدخلها في القرآن. وهذه الخطوة كانت هي الأولى في طريق الإصلاحات.
وفي العصر الراهن، أنكر بعض الذين فسروا القرآن، كمحمد عبده ومحمد عابد الجابري، “واقعية” قصص القرآن. وقالوا بأن القرآن لجأ إلى القصص الأسطورية فقط من أجل “تأكيد نبوة محمد” و”هداية الإنسان”. وكان هذا اللجوء يتوافق مع استيعاب الناس للقصص الأسطورية في ذاك الزمان. حتى أن هذه القصص كانت تفتقد الترتيب والتنظيم اللازم، باعتبار أن القرآن ليس كتاب تاريخ بل كتاب هداية.
كما أنّ الأحكام الفقهية الواردة في القرآن والمتعلقة بالعقوبات هي مما وردت في التوراة ومما كان موجودا عند عرب ما قبل الإسلام، وقد قام نبي الإسلام بالتوقيع (بالموافقة) عليها بعد إدخال إصلاحات عليها. وكان الهدف من ذلك هو تحسين أوضاع حياة أفراد مجتمع ذاك الزمان لا الأزمنة اللاحقة. وإذا استثنينا وجود حكم فقهي دائم، فلابد أن نثبت بالأدلة سبب دائمية هذا الحكم، رغم أنه لا توجد مثل هذه الأدلة.
وقد قام نبي الإسلام، الذي يُعتبر قدوة المسلمين، بالتوقيع على الأحكام التي وافق عليها عقلاء عصره. وعلى المسلمين الذين يقتدون بالنبي محمد أن يوقعوا اليوم على الأفكار التي أنتجها عقلاء العصر الحديث (كالديموقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية، والتسامح، والتعددية، والنسوية، و…).
فنبي الإسلام أكّد بأنه بُعث ليتمّم مكارم الخلاق، فيما أكّدت التعاليم الأخلاقية للقرآن على أهمية التمسك بقيم مثل العدالة وكرامة البشر والرحمة والشفقة. وعلى هذا الأساس يستطيع القرآن أيضا أن يعطِيَ معنى لحياة المسلمين وأن يساهم في بناء فرد أخلاقي.
في السنوات الأخيرة، ومع ظهور الأصولية الدينية الإرهابية والحركات الجهادية، باتت أحكام العنف الواردة في الكتب المقدسة المتعلّقة بالأديان الإبراهيمية – وخاصة في التوراة وفي القرآن – تشكل تحدّيا جديّا للمعتقدات الدينية. لذلك، يقول الكثير من الملحدين بأنه يجب أن نتجاوز النقد العلمي والفلسفي المؤدّب للدين وأن نضع جانبا المزاح مع أتباع الأديان وأن ننبّههم بكل صراحة بأن كتبكم المقدسة التي تحتوي على العديد من المعتقدات الحاثة على العنف، رهيبة وتتعارض مع حقوق الإنسان. ويضيف هؤلاء بأن عدم الالتفات إلى تلك المسائل وتغافل هذه الانتقادات سيؤدي إلى تزايد الممارسات العنيفة وغير الأخلاقية.
من جانب آخر، فإن الكثير من المثقفين والفلاسفة الدينيين المعاصرين حاولوا أن يردّوا بصورة شفافة ومبرّرة على الانتقادات القوية والحادة من جانب الملحدين، لأن المسألة تتعلق بالسؤال التالي: كيف يمكن تفسير الانتقادات الشديدة التي وُجّهت لجوانب من الكتاب المقدّس (العهد القديم)؟ إذ ينطلق هذه السؤال من الفرضية التي تقول بأن إله الكتاب المقدس قد أمر بتنفيذ أعمال وحشية مناهضة لحقوق الإنسان، لذا ما الإجابات الحكيمة التي يمكن أن تطرح على هذه الفرضية؟
ولأن هذه المسائل تفرّعت إلى عدّة أفرع، فإن الإجابة عليها بحاجة إلى جهود تخصّصات متعددة. فمن جانب، سعى فلاسفة الدين للبحث في هذه النقاط، وتساءلوا: ما هي الشروط التي من خلالها يمكن أن نطلق على نص ما بأنه وحي أو إلهام إلهي أو تجربة دينية؟ وهل الإيمان بأن “الله خير مطلق”، يتوافق مع الإيمان بأن “الأحكام التي تعتبر من حيث الأخلاق ومن حيث العقل غير عادلة وغير معقولة، قد صدرت من الله”؟ وهل الاعتقاد بـالخير المطلق لله، يسمح بالاعتقاد بوجود نصوص وحيانية (في القرآن والإنجيل والتوراة) تتضمن أحكاما تدعو إلى العنف؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات يجب أن ترتبط بالدراسات المتعلّقة بتاريخ الأديان والكتب المقدسة. لذا لابد أن تكون هناك معرفة واسعة بأديان مجتمعات الشرق الأدنى القديم وبثقافاتها وبظروفها الاجتماعية، إذ وُلدت تلك النصوص في سياق هذه المجتمعات. كذلك من الضروري أن تكون هناك معرفة بالتفاسير التقليدية والهرمنوطيقية.
وبشكل عام، هناك ثلاث استراتيجيات عُرضت لمواجهة الأحكام العنيفة الواردة في الكتاب المقدس:
1 – إنكار اعتبار تلك النصوص وحيانية.
2 – أن نشترط قبول وحيانية تلك النصوص من خلال التالي:
أ: لم يقصد الله، من خلال ظاهر أحكام العنف الواردة في الكتاب المقدس، التأكيد على العنف.
ب: المصادقة على وجود نصوص مقدّسة خالية من العنف، وهي مصادقة على أنها نصوص وحيانية.
3 – أن نصادق على وحيانية تلك النصوص وبأن الأحكام في الكتاب المقدّس والمتّسمة بإشكاليات أخلاقية تتّسق بصورة عامة مع مقاصد الله. وهناك استدلالات متعدّدة تم تقديمها لتبرير هذا النهج. لهذا يقال بأن تلك الأحكام جاءت من أجل تحقيق الصالح العام، أو أنها عقوبات عادلة لذنوب تلك الشعوب، أو أنها تتوافق بشكل عام مع مسؤوليات الله الذي هو “خير مطلق”، تجاه البشرية.
انطلاقا مما فات، نستطيع القول بأنه في مواجهة الإشكاليات الأخلاقية الواردة في الكتاب المقدس، سنكون أمام سؤالين:
الأول: هل نستطيع أن نطرح تفسيرا يساهم في تعديل وتبرير هذه المسائل وأن يجعلها متوافقة مع الاعتقاد بأن هذه النصوص وحيانية وأن ظاهر النص له حجيّة؟
الثاني: هل نستطيع، خلافا لظاهر النص، أن نستنتج تفسيرا معقولا للنص، وفي نفس الوقت أن نعتبره وحيا إلهيا؟
إن الإجابة على السؤالين هي بالإيجاب إذا ارتبط الأمر ببعض العبارات الغامضة وببعض الإشكاليات الموجودة في النصوص المقدّسة. وهذا الأمر هو نتيجة للتفسيرات المتعددة والمعاني المختلفة الصادرة عن فهم النص. فالكثير من المفسّرين التقليديين قبلوا بوجود معان مختلفة للنص المقدس. وعليه، وفي ظل غياب التفسير المعقول، لا يمكن اعتبار الفهم الواضح للنص أنه هو الأمر الذي كان يقصده الله. لكن، هذه المسألة لا تؤدي إلى وجود تناقض بين القدرة على إيجاد فهم معقول ومبرّر وبين أن يتم الاعتقاد بوجود معاني مختلفة للنص. وعلى هذا الأساس، يمكن عن طريق بعض الأدوات والطرق التوصل إلى فهم معقول للإشكاليات الأخلاقية الواردة في النص المقدّس.