هل كتب على الدولة اللبنانية منفردة، بشعبها ومؤسساتها، العيشُ في أتون الحروب المتناسلة مع اسرائيل الى ما لانهاية؟
منذ العام 1949 انتهت حال العداء بين لبنان واسرائيل بتوقيع اتفاق الهدنة في قبرص، وهي المعاهدة الرسمية التي أنهت الأعمال العدائية في حرب فلسطين عام 1948، ووضعت الأسس القانونية للحدود بين لبنان واسرائيل.
تم توقيع الاتفاقية باشراف الامم المتحدة وأهم بنودها “خط الهدنة” حيث اعتمدت الاتفاقية حدودَ فلسطين التاريخية (التي رسمتها بريطانيا وفرنسا عام 1923) كخطٍّ للهدنة، وهو ما عُرف لاحقاً بـ“الخط الأزرق“
كما نصت المادة الثانية على أن الاتفاقية ذات طابع عسكري صرف، وتهدف فقط إلى وقف إطلاق النار، ولا تعني اعترافاً سياسياً أو ترسيم حدود نهائية دائمة.
منذ توقيع تلك الاتفاقية التزمت الحكومة الللبنانية بعدم إعلان الحرب على اسرائيل، حتى اليوم. علما ان اسرائيل اعتبرت بعد حرب عام 1967، ان اتفاقية الهدنة مع لبنان سقطت، مع ان لبنان لم يدخل الحرب. إذ اعتبر حينها الزعيم جمال عبد الناصر ان لبنان بامكاناته لا يمكنه تحمل تبعات الدخول في حرب مع اسرائيل، فوصفه بـ”دولة مساندة”، وليس “دولة مواجهة“. ولم يشارك الجيش اللبناني الجيوش العربية مواجهات الايام الستة التي انتهت بهزيمة ساحقة للجيوش العربية.
عام 1969 وقّعت حكومة لبنان “اتفاق القاهرة” الذي شرعّت بموجبه العمل الفدائي للمقاتلين الفلسطينيين، انطلاقا من الجنوب اللبناني، من دون ان تتبنى الحكومة اي موقف مؤيد لاعمال الفدائيين، على الرغم مما كانت تسببه المواجهات الفلسطينية الاسرائيلية من خراب ودمار في لبنان، من جهة، وانقسام سياسي حاد بين الفرقاء السياسيين اللبنانيين، من جهة ثانية.
إلا أن الانقسام السياسي لم يصل الى حد اصدار اوامر للجيش اللبناني بالقتال الى جانب الفلسطينيين، وبقيت الدولة اللبنانية محايدة ولم تعلن الحرب على اسرائيل.
تجاوزات الفلسطينيين واختلال موازين القوى العسكرية مع اسرائيل أدى الى اجتياح لبنان عام 1982، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بمقاتليها وكل مؤسّساتها التي عملت على إنشائها منذ العام 1969.
انسحبت منظمة التحرير من لبنان، ولم تعلن الحكومة اللبنانية اي نوع من انواع المقاومة او الحروب في وجه المحتل الاسرائيلي.
بل تطوع مقاتلون من احزاب لبنانية يسارية متنوعة وبدأوا سلسلة عمليات عسكرية أدت الى انسحاب الجيش الاسرائيلي من العاصمة ولاحقا من الجبل، وبقي الجيش الاسرائيلي متمترساً في ما يسمى الشريط الحدودي حتى انسحابه عام 2000.
طيلة هذه الفترة كانت الحكومة اللبنانية تتوسل الطرق الديبلوماسية لاخراج الجيش الاسرائيلي من لبنان، ولم تعلن حالة الحرب، بل كانت البيانات الحكومية تشدد على تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالنزاع اللبناني الاسرائيلي.
مع إحكام “حزب الله” و”الحرس الثوري الايراني” قبضتهما على الجنوب اللبناني، بعد الانسحاب الاسرائيلي، عادت الحروب لتستعر جنوبا، وكان اخطرها حرب العام 2006، التي بلغت خسائرها، مليارات الدولارات واكثر من 1200 مواطن لبنان سقطوا ضحية هذه الحرب، التي كان هدفها المُعلن إعادة الاسير “سمير القنطار” المحكوم بالسجن المؤبد في اسرائيل لقتله مدنيين على شاطيء حيفا. وأطلق يومها امين عام “حزب الله” شعار الحرب قائلا “نحن قوم لا نترك اسرانا”. ثم عاد ليتنصَّلَ من تبعات الحرب بالقول “او كنت أعلم ان ردة الفعل الاسرائيلية سوف تكون بهذا الحجم لما أقدمنا على خطف جنديين اسرائيليين”. أما الهدف غير المعلن للحرب فكان تأخير المفاوضات الايرانية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتي كانت مقررة بعد ايام من اندلاع الحرب.
الحكومة اللبنانية تحملت تبعات الحرب، وفاوضت لاسترجاع الاسرى ووقف الاعمال العدائية من دون ان تتبنى موقف “حزب الله” من هذه الحرب.
بعد غزوة العاصمة في السابع من ايار من العام 2008، احكم “حزب الله” سيطرته على مفاصل الدولة اللبنانية، وأصبحت البيانات الحكومية تتضمن عبارات من نوع “حق لبنان المشروع في الدفاع عن ارضه”، و “ثلاثية شعب وجيش ومقاومة”، من دون اعلان الحرب على اسرائيل او تبني وجهة نظر “حزب الله” من الصراع مع اسرائيل.
في 8 تشرين الاول من العام 2023 قرر “حزب الله” منفردا خوض ما اسماها “حرب الاسناد” لدعم غزة، من دون الرجوع الى الحكومة اللبنانية، التي، على علاتها، لم توافقه على هذه الحرب، ولم تتورط معه في إعلانه غير المسؤول والذي سيدفع اللبنانيون اثمانا له لا طاقة لهم على تحملها.
في 27 نوفمبر 2024، تم التوصل الى اتفاق لوقف الاعمال العدائية بين “حزب الله” وإسرائيل، اتفاق وقعته الحكومة اللبنانية، في ظل اختلال فاضح في موازين القوى العسكرية بعد ان دمَّر الجيش الاسرائيلي معظم مواقع “حزب الله” ووحداته المقاتلة، وقتل معظم قادة الصف الاول في الحزب، وما زال يمعن قتلا وتدميرا الى اليوم.
الدولة اللبنانية التي لم تعلن الحرب على اسرائيل منذ توقيع اتفاق الهدنة، مطالبة اليوم، ليس بالتمسك فقط باتفاق الهدنة الذي يمثل وثيقة دولية موقعة باشراف الامم المتحدة، وتُظهر بوضوح الحدود اللبنانية مع اسرائيل، ما يعني أه ليست هناك من حاجة الى التفاوض على ترسيم الحدود، كونها مرسمة ومقرة في الامم المتحدة!
“السلام” غير “التطبيع”!
بل إنها مطالبة ايضا بخطوة تتماشى مع مقررات قمة بيروت العربية للسلام، التي عقدت العام 2002، والتي خلصت الى استحالة الحلول العسكرية في الصراع العربي الاسرائيلي، وطالبت بـ”الارض مقابل السلام” الدائم مع اسرائيل، وهذا ما ردده لاحقا الرئيس الاميركي جورج بوش، حين طالب بدولتين فلسطينية واسرائيلية تعيشان جنبا الى جنب بسلام.
السلام، يتطلب قرارا شجاعا، قد يكون عبر “الميكانيزم”، بإعلان واضح وصريح من الحكومة اللبنانية بوقف “حال العداء مع اسرائيل”. وهذا يعني وقف اطلاق نار دائم، على ضفتي الحدود وليس وقف الاعمال العدائية. هذا لا يعني التطبيع مع اسرائيل، ولا الحدود المفتوحة بين البلدين، فذلك يجب تأجيله الى حين الاتفاق على حل الدولتين، وتطبيع العلاقات بين جميع الدول العربية مع اسرائيل.
“وقف حال العداء” مع اسرائيل ليس قرارا جديدا على الحكومة اللبنانية، بل هو قرار “متأخر” ينسجم مع المواقف الرسمية اللبنانية منذ العام 1949، ومع مقررات قمة بيروت العربية للسلام.
فهل تقدم الحكومة على مثل هكذا قرار وتوقف معاناة اللبنانيين المستمرة منذ العام 1969؟

توضيح فقط : الخط الأزرق مختلف عن خط الهدنة١٩٤٩ و الذي هو خط ١٩٢٣
حصيلة هذا الكلام، العودة إلى ١٩٤٨ بإضافة مقررات قمة ٢٠٠٢ الذي يربط السلام مع إسرائيل بإنشاء دولة فلسطينية. ما يعني فعلياً استمرار ربط لبنان بالموضوع الفلسطيني، اي إبقاء الباب مفتوحتان مصرعيه لكل أشكال جديدة للممانعة وغيرها. ومن المستغرب الاستمرار باستعادة مقررات قمة ٢٠٠٢ الذي لم يعد لها اية صلة بالوضع الحالي، وخصوصا ما يخص غزة وما سيحصل في الضفة الغربية. والاهم، عملية السلام بين إسرائيل من جهة وجميع دول الخليج، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، أدت إلى تقليص هذه المقررات إلى الصفر. لا حلّ للبنان سوى التطبيع الكامل مع إسرائيل من جانب واحد، على غرار مصر والأردن والمغرب وبلاد… قراءة المزيد ..