لا اعتقد ان كثرة من اساتذة الجامعة اللبنانية الجدد قد سمعوا بالدكتور جيلبير عاقل الذي غادرنا في هذه الأيام عن عمر يناهز ٨٨ سنة، حتى من اساتذة كلية العلوم التي كان احد بناتها حين “اكتشفه واستدعاه” الأكاديمي اللبناني الأبرز ومُؤسس كلية العلوم حسن مشرفية في ستينيات القرن الماضي الى جانب كوكبة من الأساتذة الرواد كجورج طعمة وإبراهيم الحاج وخليل نور الدين وشافرييه وفلامان والراحلين بديع تقي الدين ونزار سلهب وغيرهم من الرواد.
كان جيلبير ابن ميناء طرابلس آنذاك احد أبرزاساتذة الرياضيات القلائل في المدينة. فقد درّس في الثانوية التي أصبحت احدى الثانويات الأشهر في لبنان، خصوصا بعد ان استلم ادارتها د. حسن الحجة، كما درّس جيلبير الرياضيات في مدرستي مار الياس والطليان وفي كلية التربية والتعليم الاسلامية التي احتضنت آنذاك بعضا ممن اصبح من رجالات طرابلس ولبنان البارزين في العوالم المختلفة.
كان جيلبير أستاذا مميزا لجهة قدرته على إيصال المعلومات في جو من الصرامة والوضوح والخبرة حتى في المدرجات التي كانت تضم أكثر من ٥٠٠ طالب من السنة الاولى، وهذه الشهادة لا تقتصر على طالب الرياضيات طلال خوجة، الذي تأثر بأستاذه كثيراً، بل هي أيضاً شهادة الغالبية العُظمى من الطلاب والأساتذة، في الكلية والجامعة عموما، علما ان جيلبير حاز على شهادة الدكتوراه وهو يدرّس في الكلية موادَ مختلفة في الرياضيات البحتة.
وجلبير الأستاذ البارع في التعليم لدرجة تقارب الكمال ظل مقرره الذي الفه في الجبر يشكل أساسا لمعظم اساتذة المادة في كل الفروع والاقسام حتى في كلية الهندسة لاحقا، كان بارعا ايضا في ادارة تحركات
الأساتذة وإضراباتهم ونضالاتهم، مستندا على خليط من عفوية طرابسية وانتماء فكري يساري امتازت به نخب ميناء تلك الأيام واستعداد نضالي عام تطور في الفيحاء الشمالية وتعزز في العاصمة ضمن مناخ الصراع الديمقراطي المتصاعد في ستينيات القرن الماضي حول أسس النظام السياسي واقتصاده وقضاياه الانمائية والثقافية والوطنية، والمحتدم حول دور التربية وديمقراطية التعليم والتي انحاز لها الرئيس المحدّث فؤاد شهاب.
وقد شكلت قضايا الجامعة اللبنانية آنذاك احد ابرز عناوين برامج الأحزاب العلمانية والديمقراطية والرابطات والاتحادات الطلابية والشبابية، علما ان جيلبير عاقل ونزار الزين وصادر يونس شكلوا الثلاثي الابرز في قيادة إضراب الأساتذة الذي أدى الى قانون التفرغ والذي شكل المدماك الرئيسي في تطور الجامعة اللبنانية، خصوصا كلية العلوم التي أصبحت شهرتها تعم الافاق آنذاك، حتى أن طلابها الذين أنجزوا دراسات عليا في الحواضر العلمية الغربية شكلوا مصدر غيرة وإعجاب في آن، كما أنها أدت إلى الإغلاق الطوعي لمركز الرياضيات الفرنسي في بروت.وقد قاد هذا الثلاثي معركة انشاء رابطة الأساتذة المتفرغين والتي رأس هيئتها التنفيذية الاولى نزار الزين، بينما شكل عصبها الرئيسي امين السر جيلبير عاقل.
ورغم ان جيلبير وحسن مشرفية انتميا الى مدرستين فكريتين ونضاليتين غير متطابقتين، إلاّ أن التواصل وحوار الأفكار والمقاربات “بين القطبين” كان يتم تحت سقف المصلحة الأكاديمية، وعلى خلفية انتمائهما الطبيعي للحركة الديمقراطية الإجمالية وانحيازهما البديهي للفئات المتوسطة والشعبية في البلد، ما جعل جيلبير يشكل الدينامو الحقيقي في الكلية، وما جعل الثلاثي مشرفية، عاقل ويونس يشكلون قوة رئيسية داخل مجلس الجامعة تعمل في الدفاع عن استقلالية الجامعة ومن أجل تعزيزها وتطويرها وتنويع وتوسيع كلياتها، ما جعلها تتبوأ مركزا مرموقا في البلد والمنطقة وفي العالم المتقدم علميا.
وقد شكل جيلبير أيضا منصة إطلاق الأفكار المبدعة في قيادة الرابطة الوليدة التي توقفت عمليا بعد قرار التفريع في ١٩٧٧ في أعقاب الحرب الأهلية والذي افتتح مسارا تراجعيا دراماتيكيا في القضية الأكاديمية بعد نجاحات كبيرة خصوصا في قرار انشاء الكليات التطبيقية التي كانت حكرا على الجامعات الخاصة وفئات اجتماعية معينة.
شكلت فترة تأسيس الفروع مرحلة ركود في النضال الديمقراطي والأكاديمي في الجامعة، خصوصا أنّ التفريع عزف على أنغام الانقسامات الأهلية المتصاعدة، وليس على وتر حاجات مناطقية موجودة ومتصاعدة، ما جعل استقلالية الجامعة التي ناضل من اجلها الطلاب والأساتذة وعموم اللبنانيين، في خطر كبير، خصوصا بعد أن”اقتحمت” ما سمي بقوى الامر الواقع ادارات الفروع وتناتشت ادارة الجامعة التي شهدت موجة فساد واهدار وتوظيف زبائني جعلها تشبه القطاع العام الذي بدأت ازماته بالتفاقم، خصوصا مع نشوء طبقة سياسية جديدة في كنف الوصاية السورية ونظامها الأمني والزبائني.
ولم يُؤد التفريع الى تجميد رابطة الأساتذة الحديثة الولادة فقط، بل أدى إلى تفكيك الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية العريق والذي شكل ركنا بارزا في الصراع الديمقراطي العام في البلد، و نجح في انتزاع مطالب أساسية بالتواصل مع الحركات الشعبية والعمالية سواء تحت قيادة اليسار والقوى الديمقراطية او تحت قيادة حركة الوعي وما سمي آنذاك باليمين المسيحي المتنور.
وسرعان ما بدأت حركة الأساتذة بالظهور من جديد تحت لواء تحركات ولجان متابعة، ما جعل الهيئة التنفيذية القديمة بقيادة الثلاثي إياه تتقدم الجموع من جديد على ضوء مطالب الملاك وتصحيح الرواتب المنهارة وصندوق التعاضد والمباني الجامعية واستقلالية الجامعة عبر المجالس الاكاديمية، كما طرحت قضية تجديد الرابطة وصياغة نظام داخلي جديد يلحظ التفريع. وقد لعب الراحل جيلبير عاقل دورا محوريا في هذه الصياغة التي كان لي شرف المشاركة فيها والتلمذة النقابية على أياديه بعد التلمذة العلمية، علما أن نزار الزين وجيلبير عاقل أحجما عن الترشح للرابطة المتجددة في بداية التسعينيات تاركين المجال للأجيال الجديدة، بينما عجز الرئيس صادر يونس عن المقاومة فترأس الهيئة التنفيذية المتجددة دورتين متتاليتين في اصعب المراحل حيث تابع الأساتذة تحت راية الرابطة نضالهم الديمقراطي والأكاديمي المتنوع مشكلين ركنا أساسيا في حركة التنسيق النقابية التي واجهت القمع والاحتواء في مرحلة نظام الوصاية الذي نجح بتهميش واحتواء الاتحاد العمالي وفشل في احتواء حركة الأساتذة ورابطتهم في التسعينيات، رغم تصاعد التطييف والمذهبة في ثناياها وتعميم منطق المحاصصة حتى في انتخاباتها، خصوصا بعد إطباق النظام الأمني في البلد، وبعد وصول الانقسامات المذهبية حدود الانشطار.
ومع ان جيلبير وأهل العلوم عموما كانوا من أوائل من لحظ احتمالات التفريع خصوصا في الشمال مع ارتفاع مذهل في نسبة الطلاب الشماليين في بداية سبعينيات القرن الماضي، الا انهم قبلوا على مضض التفريع الأمني والسياسي الذي وجد طريقه بعد حرب السنتين ورأوا فيه نذر انهيار في المستوى الأكاديمي، خصوصا انه استُتبع لاحقا بتشعيب زبائني وفئوي ومناطقي. والجدير بالذكر أنّ عطاءات جيلبير التعليمية امتدت لكلية الهندسة في رومية.
عندما عين د.ابراهيم قبيسي رئيسا للجامعة اللبنانية في بداية القرن الحالي كتب سميرقصير مقالا في جريدة النهار بعنوان “رصاصة الرحمة على الجامعة اللبنانية”، وأردفته بمقال بنفس الجريدة بعنوان “رصاصة بلا رحمة على الجامعة اللبنانية”. لم يكن مقالانا ينبعان من المكون الشخصي لابراهيم قبيسي، بل من السياق الذي أوتي به من عمادة الحقوق التي كانت تعطي الشهادات للضباط السوريين دون حساب في عهد “المنتحرَين” غازي كنعان ورستم غزالة!
وأظن أن جيلبير كان يتألم كثيرا ليس فقط بسبب تدهور الجامعة التي أعطاها دون حساب، بل لأن ابراهيم اليساري والعلماني السابق كان أحد الأعضاء الشباب الواعدين في الهيئة التنفيذية الأولى، قبل أن ينفرط العقد مع الحروب والتفريع والتسييس ويخترق هذا الإنفراط جسم الأساتذة، ومع رحيل جيلبير، فإن تدهور الجامعة أصبح بلا قعر مرئي.
وإذ عاد الرجل الطرابلسي المولد والنشأة والبيروتي المسكن والأكاديمي الهوى ووُري الثرى في بلدة الشيخ محمد الملاصقة لحلبا عاصمة المحافظة المستحدثة وبلدة رفيقة عمره، فان المرء ليتساءل عن عمق موقفه من موضوع التفريع الجديد الذي لحظ جامعة في عكار من ضمن فروع وشعب في بعلبك وجبيل.
وبما ان نسيجي ونسيج الراحل مصنوعان من نفس الخيوط تقريبا، أسارع للقول بأنه من الأفضل ان يقام في عكار المحرومة والمتعطشة للانماء كليات تطبيقية كالزراعة والعلوم البيطرية ومعهد التكنولوجيا، على ان تكون بمتناول الشماليين جميعا ويتبعوا اداريا لجامعة شمالية واحدة بنكهات متنوعة. وهذا يقتضي ايضا الإسراع بإنهاء المدينة الجامعية في المون ميشال بما فيها مباني السكن ومراكز الأبحاث، كما الإسراع بالطرقات الدائرية وغيرها وبتأمين باصات حضارية لتقل الطلاب وفِي نفس الوقت اعادة العمل بمنح التفوق والاختصاص بما يتيح للفئات الشعبية من عكار وغيرها فرص التعلم والترقي العلمي والاجتماعي.
برحيل جيلبير تُطوى صفحة أساسية من حياتنا الاكاديمية والنقابية والمدنية والإنسانية والتي خطها الراحل صاحب الخط التعليمي الاجمل الى جانب غيره من أواخر الرجال المحترمين، والذين غادرنا بعضهم بهدوء كما فعل جيلبير. ولن أنسى جملته التي كان يبدأ بها حصته والتي أستعرتها منه لثلث قرن من التدريس في الجامعة اللبنانية.
“et bien mes amis”
بضعة كلمات كان يقولها قبل أن يبدأ الكتابة السوبر أنيقة على الألواح المتحركة فيخيم الصمت المدوي في المدرج A في الكلية الأولى الجميلة واليتيمة التي بنيت في الحدث قبل أن يفك يتمها رفيق الحريري بعد ربع قرن منجزا المدينة الجامعية برشاقة ما احوجنا إليها في مشروعنا في المون ميشال الذي بدأناه مع الشهيد الحريري والذي طالما كان جيلبير ينصحنا بالصلابة والمثابرة و بالنفس الطويل في مواجهة ؟صعوبات وتقلبات المشروع الشمالي الكبير، فوداعا mon ami ، Gilbert.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس – لبنان