استضافت موسكو لقاء ثلاثياً الثلثاء الماضي. وأعلنت أن ثمة اجتماعاً آخر في آستانة الشهر المقبل. اختصرت أزمة سورية باقتصار اللقاء الأول على وزراء الخارجية الروسي والتركي والإيراني. أما الثاني الموعود قريباً فسيحضره الرئيس بشار الأسد وممثلون عن المعارضة. ليس «الائتلاف الوطني» ولا «الهيئة العليا للمفاوضات» بالطبع. الأرجح أن يدعى مندوبون من الفصائل العسكرية المقاتلة على الأرض. أو بالأحرى قريبون من أنقرة حذرتهم أخيراً من التقدم نحو وحدة ميدانية تضمهم و «جبهة فتح الشام» أي «النصرة» سابقاً. يتصرف الرئيس فلاديمير بوتين الذي أعلن عن اللقاء المرتقب في عاصمة كازاخستان كأنه وحده في بلاد الشام. تناسى جميع القوى الأخرى المتصارعة في سورية وعليها. تجاهل أولاً من يسميهم المعارضة الخارجية. وتجاهل مجموعة «أصدقاء الشعب السوري»، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول أوروبية وعربية. لا يتصرف مدفوعاً بنشوة «النصر» فوق أنقاض حلب وإعادتها إلى «بيت الطاعة» فحسب. ولا يتصرف لأنه وحده فيما جميع الخصوم الآخرين وقفوا مكتوفين أو عاجزين أمام الآلة العسكرية لروسيا، وأمام ديبلوماسية سيرغي لافروف الذي لم يكل لحظة عن اللف والدوران والتمويه والتعطيل حتى لم يبق شيء من البيانات والقرارات والتفاهمات السابقة. بل هو أيضاً تعب كما اللاعبون كافة تعبوا. ويحتاج إلى التقاط الأنفاس وشيء من استراحة المحارب.
والواقع أن موسكو تحتاج إلى ترتيبات واختراقات في المجال السياسي من أجل ترسيخ أقدامها وتعزيز سيطرتها بلا منازع في سورية. مثلما تحتاج أنقرة إلى لملمة صفوف الفصائل العسكرية الإسلامية المعتدلة في جبهة الشمال، وما بقي من مكونات وقوى في «الائتلاف الوطني». وكذلك تحتاج طهران إلى هدنة لعلها ترتب صفوف حلفائها وتبدد بعض مخاوفها من تسوية سياسية أو أي صفقة قد يلجأ إليها الرئيس بوتين عندما يحين أوان ترجمة «رسائل الغزل» أو «الرسائل النووية» المتبادلة بينه وبين الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. أو عندما يدرك فداحة معاداة العالم العربي وغالبيته السنّية والكلفة الباهظة لهذا العداء. لذلك، قد لا يكون سيد الكرملين واثقاً من أن لقاء آستانة سيحقق هدفه في وقف نار شامل في كل سورية. أو أن استعادة حلب، كما قال قبل أيام، «تشكل خطوة مهمة جداً نحو إعادة الوضع إلى طبيعته بالكامل في سورية» وفي «المنطقة بأسرها». وليس مدير وكالة الاستخبارات الأميركية جون برينان وحده من استبعد أن ينهي سقوط المدينة الصراع في سورية. بل توقع مثل مراقبين آخرين أن «كثراً من أولئك المعارضين الذين يحاولون استعادة بلدهم من أجل عائلاتهم وجيرانهم وأطفالهم سيواصلون القتال». علماً أن أراضي شاسعة في سورية لا تزال تحت سيطرة فصائل متعددة. إضافة إلى تنظيم «داعش» الذي استعاد تدمر ومناطق شرق حمص. وكذلك «النصرة» التي تتحكم بمناطق إدلب والشمال الغربي للبلاد.
اختصر الرئيس بوتين جميع المنخرطين في حروب سورية بتركيا وإيران. ولم يحضر لقاء موسكو سوى وزيري الخارجية فيهما. فلا النظام كان حاضراً ولا طيف من أطياف المعارضة، ولا مشاركون أو مراقبون آخرون. لا يعني ذلك أنه يريد أن يتقاسم معهما بلاد الشام بمقدار ما يرغب في إطفاء النار المشتعلة بينهما. إذ لم تمض ساعات على اللقاء الثلاثي حتى كانت أنقرة تنادي صراحة وعلناً بانسحاب مقاتلي «حزب الله» والميليشيات الأخرى التي يرعاها «الحرس الثوري». وكانت المنابر الإعلامية التركية أطلقت حملة ضارية على الجمهورية الإسلامية بسبب دورها في سقوط حلب. حتى أن سفير الجمهورية لدى أنقرة حذر من تداعيات هذه الحملة على العلاقة بين البلدين. وكان اغتيال سفير روسيا نذيراً ورسالة خطيرة من العاصمة التركية. بالطبع، لا تحتاج هذه العلاقة وحدها إلى ترميم. بل مثلها تحتاج العلاقة بين موسكو وطهران إلى ثقة متبادلة مفقودة. لذلك، قد لا يصح توقع الكثير من اجتماع آستانة. ليس لأن النظام لا يرغب في تسوية أو لأن قوى معارضة قاطعت وتقاطع فحسب، بل لأن احتمال التفاهم بين القوى الثلاث الرئيسية يبدو صعباً. ثمة تناقضاً في أهداف كل من روسيا وتركيا وإيران. الرئيس بوتين يستعجل ترتيبات سياسية أو أقله وقفاً للنار فلا يعود مطروحاً على الطاولة بينه وبين ترامب سوى موضوع الحرب على الإرهاب في المنطقة. فهو يدرك أو سيدرك عاجلاً أم آجلاً أنه ليس وحده في بلاد الشام. فالأميركيون حاضرون في معركة الرقة وفي الشمال الشرقي للبلاد. ولن يعدموا وسيلة في ترسيخ هذا الحضور عبر الكرد و «وحدات حماية الشعب». وقد لا يجد هؤلاء أفضل منهم «حليفاً» كما هي حال معظم أبناء جلدتهم في كردستان العراق. وبالتالي لا تحتاج واشنطن إلى إغراءات موسكو لها بأنها لن تعتبرها خصماً في سورية إذا تولت الإدارة الجديدة المقبلة تحسين العلاقات مع النظام في دمشق!
إلى ذلك، لا تبدو تركيا مستعجلة لإبرام اتفاق في سورية مع شريكيها. فهي لم تنتقل من ضفة إلى أخرى من أجل البقاء تحت عباءة الشريك «الكبير». فمن ساهم في عسكرة الحراك في سورية، وفتح الحدود أمام تدفق المتطرفين و «الجهاديين» ثم انقلب إلى حرب عليهم لا يمكن أن يرضى بثمن بخس في سورية ولا في العراق. وهو لا ينسى ممانعة إيران دورَه في كلا البلدين واستبعاده من الحرب على الموصل. لذلك، يحاول التعويض معولاً اليوم على رعاية أهل السنّة في مشروع التسوية السياسية بين المكونات العراقية. كما أنه لا يمكنه المجازفة مجاناً بعلاقاته مع أهل الخليج بعدما بات يستأثر بالشطر الأكبر من الورقة السنّية في الإقليم. وهو معني بوضع حد للتمدد الإيراني في المنطقة. لهذا، لن يستعجل الرئيس أردوغان تسوية نهائية يتسلح بها نظيره الروسي وحده بمواجهة الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. سينتظر جلاء ملامح النظام الإقليمي وموقعه وحصته في خريطة هذا النظام قبل أي قرار نهائي في بلاد الشام. سينتظر جلاء موقف موسكو من مستقبل النظام السوري وحدود التغييرات التي يمكن أن ترضي قاعدة واسعة من المعارضة.
يدرك الرئيس أردوغان أن النظام في دمشق لا يمكن أن يعود إلى ما كان قبل ربيع 2011. لكنه يخشى أن يخطئ وشريكيه في قراءة موقف السوريين في حلب وغيرها، والذين لم يصدقوا خروجهم من «سلطة» قوى التطرف التي لا تختلف وطأتها عن وطأة النظام. يتفق الرئيسان التركي والروسي بلا شك على وجوب التغيير ليس في صورة النظام، بل في أدواته وآلية عمل مؤسساته وأجهزته. ولديهما القرار الدولي 2254 والتفسير الروسي لخريطة الطريق من قيام حكومة وحدة وطنية، ثم إجراء انتخابات إلخ… لكنهما قد لا يتفقان كلياً على مدى التغيير المطلوب وحدوده ومتطلباته إذا كان لا بد من وقف الحرب فعلاً. أما موقف الشريك الإيراني فمعضلة أساس لا تؤشر إلى احتمال نجاح أي مفاوضات في آستانة ولا في غيرها. فالجمهورية الإسلامية لم تلمح مرة إلى إمكان تخليها عن النظام ورأسه. وهذا سبب من أسباب غياب الثقة التامة بينها وبين روسيا. وهذا ما يجعل النظام أقرب إليها منه إلى موسكو. ذلك أنه يدرك أن بقاء الأزمة يرسخ خيار بقائه، ويوفر عليه تحمل أعباء الحرب وكلفتها البشرية والمادية، معولاً على دعم حليفيه الرئيسين. لذلك، لن يكون سهلاً على بوتين تسوية الأزمة في آستانة قبل نجاح التسوية بين الشركاء الثلاثة. عليه أن يردم الهوة بينه وبين طهران، قبل أن يردمها بينها وبين أنقرة. وقد لا يملك القدرة على إقناع شريكيه بالقسمة التي سيرسمها لهما في سورية إذا لم يقتنع هو أولاً بأنه ليس وحده في بلاد الشام، وأن حلب لا تختصر البلاد والمنطقة وحدها… إلا إذا واصل العرب «استقالتهم» واستسلموا أمام «ثلاثي» موسكو التي لا تقلقها متانة التفاهمات في جبهة جنوب سورية، ولا تجد من يعترض أو يحول دون محاولتها تقرير مصير «قلب العروبة» في… كازاخستان! وبلا أي شريك عربي!