قيل وكتب الكثير عمّا يحصل من أهوال في مدينة الشهباء، ولم يعد لهذه الأقوال مكان الآن، فما كان كان ولن يعود إلى سابق العهد. وكان في ما مضى أن قال فيها كشاجم: «أرَتْكَ يدُ الغيثِ آثارَها – وأخرجتِ الأرْضُ أزهارَها / وما مَنعَتْ جارَها بلدةٌ – كما مَنعَتْ حَلَبٌ جارَها / هِيَ الخُلْدُ يَجْمَعُ ما تشتهي – فزُرْها، فَطُوبَى لِمَنْ زارَها».
والآن، ها هو فلاديمير بوتين ملك الرّوس يتقــمّص دور الدمستق نقفور مـــلك الروم من الأيــام الخوالي، إذ: «كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلباً، وأشدهم كفراً، وأقواهم بأساً، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتالاً للمسلمين في زمانه. استحوذ في أيامه – لعنه الله – على كثير من السواحل، أو أكثرها، وانتزعها من أيدي المسلمين قســـراً، واستمرت في يده قهراً، وأضيفت إلى مملكة الرّوم قدراً، وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان… وقد ورد حلب… وجال فيها جولة… ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها من الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله… وأخذ أموالها وحواصلها وعددها، وبدد شملها، وفرق عددها… وكان – لعنه الله – لا يدخل في بلدة إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والأطفال».
إنّ يد الغيث من كلام كشاجم قد انقلبت في هذا الزمان فأضحت «يد الغدر»، وها هي ذي اليد قد أرتني وإيّاكم آثار دمارها. ولأنّي لم أزرها، فلا طوبى لي، إذً. لذا، سأكتفي في هذه العجالة الآن بزيارة آثارها المدوّنة في تضاعيف ما أورثه لنا السّلف. فلعلّ في هذه التضاعيف ما يروي ظمأ البحث عن تبيان أحوال هذا المكان.
وها هم أهل حلب، وبعد أن فتكت بهم يد الغدر، يؤمرون بالمهاجرة الآن، ليس على خطى إبراهيم إلى أرض مقدسة، وإنّما يتفرّقون أيدي سبأ في جهات الأرض. هل ينظر هؤلاء للوراء لإلقاء نظرة الوداع؟ هل يبتهلون إلى العليّ كما ابتهل إبراهيم حين تركها: «فلما أراد الرحيل التفت إلى مكان استيطانه كالحزين الباكي لفراقها، ثم رفع يديه وقال: اللهم طيّبْ ثراها وهواءها وماءها وحَبّبْها لأبنائها. فاستجاب الله دعاءه فيها، وصار كل من أقام في بقعة حلب ولو مدة يسيرة أحبّها، وإذا فارقها يعزّ ذلك عليه، وربما إذا فارقها التفتَ إليها وبكى».
فهل التفت إليها من نزح عنها؟ هل يلتفت إليها النازحون الآن عنها ويبكون؟ وأين تجتمع كلّ تلك الدموع المنهمرة؟ وهل من زرع أو شجر يرتوي بهذه العبرات المنسابة على وجنات الأطفال؟ أم إنّ شجرها قد ارتوى دماءً مدرارة خلال هذه الأعوام المنصرمة، فلا حاجة له بعد بالدموع؟
وكما هي الحال مع المدن العريقة، فإنّ للخرافات والأساطير أدواراً تلعبها فيها. فها هي الذاكرة الشعبيّة المدوّنة تروي لنا أنّ إبراهيم الخليل كان قد نزل «بالتلّ الأبيض الذي عليه الآن قلعة حلب المحروسة حماها الله من الغير والآفات. لقد طاب له المكوث فيها ردحاً من الزمان، «ثمّ أُمر بالمهاجرة إلى الأرض المقدسة، فخرج منها».
لقد أودعت الخرافات الشعبية بناء المدينة في أيدي العماليق بعد أن أجلاهم يوشع بن نون من الأرض المقدسة: «وكان أكبر الأسباب في عمارتها ما حلّ بالعماليق في البلاد الشامية من خلفاء موسى، وذلك أن يوشع بن نون عليه السلام، لما خلف موسى، قاتل أريحا الغور وافتتحها، وسبى وأحرق وأخرب. ثم افتتح بعد ذلك مدينة عمان وارتفع العماليق عن تلك الديار إلى أرض صوبا وهي قنسرين، وبنوا حلب وجعلوها حصنا لأنفسهم وأموالهم… ولم يزل الجبّارون مستولين عليها… إلى أن بعث الله داود عليه السلام فانتزعهم عنها».
ومرّت الأيام والأعوام على هذه المدينة ومرّت عليها الأقوام أيضاً وطالما تقرّب أهلها من الأولياء والصالحين: «وأهلها سنة وشيعة… وبها حجر بظاهر باب اليهود على الطريق، يُنذر له، ويَصُب عليه الماوردَ المسلمون واليهود والنصارى. يقولون: تحته قبر نبي من الأنبياء».
لم تشفع قبور الأنبياء والأولياء والصالحين لأهل حلب. كما لم تشفع لهم البئر التي هي من عجائبها: «ومن عجائبها بئر في بعض ضياعها، إذا شرب منها من عضّه الكَلْبُ الكَلِبُ بَرئ، وهذا مشهور. قال بعض أهل هذه القرية: شرطه أنّ العضّ لم يجاوز أربعين يوماً، فإن جاوز أربعين يوماً لم يبرأ».
ليس أربعون يوماً فقــط قد انقضى، بل أربعة أعوام، أو هي أربعون عاماً وأكثر، ولا يزال هذا النّظام الكَلِبُ المسعورُ يفتك بأهل البلاد، فلم تشفع لهم بئرهم العجيبة، ولم يبرأ بعد منه العباد. وها هم ينتظرون الفرج من لدن العليّ القدير، مثلما انتظر أهلها الخلاص من ذلك التنّين الذي ظهر في غابر الزمان: «وحكى بعضهم أنه ظهر بأرض حلب سنة 624 تنين عظيم بغلظ منارة وطول مفرط، ينساب على الأرض يبلع كل حيوان يجده، ويخرج من فمه نار تحرق ما تلقاه من شجر أو نبات، واجتاز على بيوت أحرقها، والناس يهربون منه يميناً ويساراً حتى انساب قدر اثني عشر فرسخاً، فأغاث الله تعالى الخلق منه بسحابة نشأت ونزلت إليه فاحتــملته، وكان قد لف ذنبه في كلب، فيرفع الكلب رفعة والكلب يعوي في الهواء، والسحاب يمشي به، والناس ينظرون إليه إلى أن غاب عن الأعين».
هل يكرّر تاريخ المدينة ذاته ومجرياته؟ هل ما يجري الآن هو قدر مختوم ومحتوم؟
لقد دوّن لنا السلف تقليداً متجذّراً بين أهل هذه المدينة: «ولهم لعب كل سنة، أول الربيع، يُسمونه الشلاق، وهو أنهم يخرجون إلى ظاهر المدينة وهم فرقتان تتقاتلان أشد القتال، حتى تنهزم إحدى الفرقتين فيقع فيهم القتل والكسر والجرح والوهي ثم يعودون مرة أخرى».
فهل انقسام أهلها إلى فريقين متخاصمين قائم إلى يوم يبعثون؟ في الماضي قال كشاجم: «طوبى لمن زارها». فماذا نقول اليوم؟
هل نقول: الخزي والعار، كلّ الخزي والعار، لمن دمّر آثارها؟
* كاتب فلسطيني