لا بد لمجلس التعاون الخليجي من العمل على مسارين متوازيين: بناء القدرات الذاتية وفق نظرة شاملة لا تقتصر على البعد العسكري، والتأقلم مع متغيرات السياسة الأميركية والسياسات الأوروبية تجاه المنطقة.
يعيش العالم على وقع انتظار ارتسام سياسة دونالد ترامب، وخلال هذه المرحلة الانتقالية الضبابية المتسمة بالتحولات المتسارعة والمضطربة في النظام الدولي، تستضيف المنامة، في الأسبوع القادم، القمة الخامسة والثلاثين لمجلس التعاون لدول الخليج العربية (المتعارف عليه بتسمية مجلس التعاون الخليجي) في ظل مشهد إقليمي متغير تطغى عليه التهديدات للأمن الخليجي والعربي والمخاطر الناجمة عن السياسة الإيرانية الهجومية.
وبما أن الإصلاحات البنيوية لمرحلة ما بعد النفط لن تتأثر باحتمال تحسن الوضع الاقتصادي إثر اتفاق أوبك الأخير، يكمن التحدي الإستراتيجي في تحصين موقع الخليج وسط الأنواء الإقليمية والدولية، وربط ذلك بضرورة إعادة بناء منظومة الحد الأدنى الواقعية للعمل العربي المشترك.
بالرغم من صعوبات السنوات الأخيرة، تلفت النظر في المقام الأول قدرة مجلس التعاون الخليجي على البقاء، إذ أن الاستمرار على مدى 35 عاماً هو في حد ذاته إنجاز، وذلك بالمقارنة مع تجارب عربية مماثلة لمنظمات إقليمية جهوية مثل تجربة “الاتحاد العربي” التي انهارت إثر الغزو العراقي للكويت عام 1990، وتجربة “اتحاد المغرب العربي” الذي تأسس في العام 1989 وجمده الخلاف الجزائري- المغربي. إلا أن اعتبار بقاء مجلس التعاون الخليجي وتطويره من الضرورات الآنية والمستقبلية، لا يمنع استخلاص الدروس حول تاريخ التجمع الخليجي الذي نشأ في العام 1981 تحت تأثير التحدي الأمني المتمثل آنذاك في اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية وتداعيات وصول الخميني إلى الحكم. وقد ثبت لاحقاً أن هذا التجمع الإقليمي غدا حاجة مصيرية أمنياً واقتصادياً وإستراتيجياً خاصة بعد حروب 1990-1991، وحرب العراق في 2003.
وإذا كان من الطبيعي التفكير بأن التكتل الخليجي لدول لها ثرواتها وموقعها الجيوسياسي الحساس يشكل تدعيماً لاستقلالها وقدرتها في وجه المطامع الإقليمية والخارجية، وإذا كان التكامل الاقتصادي والسياسي يبقى هدفاً بعيد المنال بسبب ما تصفه أوساط غربية من “خشية وحذر الدول الصغرى في الخليج من الأخ الأكبر السعودي ودوره القيادي”، فإن الأوساط الخليجية تعتبر أن التنسيق في القضايا المصيرية لا لبس فيه، مع الإقرار بالتنوع والحق في الاختلاف (تباينات حول “ثوراث الربيع العربي” والمواقف من إيران والإخوان المسلمين ومصر)، وبرز تميز مجلس التعاون الخليجي عربياً ببلورة إستراتيجية لها أبعادها وأهدافها تمثلت بالاستمرارية ولعب دور إقليمي فعال عبر حماية دول الخليج نفسها من الاختراق (البحرين) والإسهام في “إنقاذ الدولة المصرية” في 2013 وفق فرض الرياض وأبوظبي لتصورهما في هذا الإطار.
بيد أن تفاقم حرب اليمن ونزاعات العراق وسوريا وإشكاليات التنسيق مع مصر تزيد من حجم التحديات، وتطرح بإلحاح ضرورة صياغة إستراتيجية خليجية فعالة تواجه المتغيرات الإقليمية والدولية عبر إيلاء الاهتمام بالعمق الإستراتيجي العربي (مصر والسودان والأردن من جهة، والجزائر والمغرب من جهة أخرى) ودرس لشبكة التحالفات مع القوى الإقليمية الإسلامية وخصوصا تركيا وباكستان، بالإضافة إلى توضيح الصلات مع القوى الدولية الفاعلة على قاعدة التنوع وتبادل المصالح في الدرجة الأولى.
في مواجهة التراجع العربي من سوريا إلى اليمن مرورا بالعراق، تخشى الدول العربية في الخليج مخاطر الانكشاف الإستراتيجي الناتج عن انعكاسات حرب العراق عام 2003 (صعود إيران وإسرائيل وتركيا) وعن تحول الدور الأميركي إبان عهد أوباما (الشراكة مع إيران والضغط على السعودية من بوابة اليمن)، ولذلك كانت “عاصفة الحزم” في اليمن جواباً دفاعياً استباقياً، ونظراً لترابط المشهد الاستراتيجي الخليجي مع منظومتي شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر، يتسع مجال الأمن الخليجي من بلاد الشام إلى باب المندب وجيبوتي. وهذا يفترض ترتيباً للعلاقة السعودية المصرية بغض النظر عن الخلافات في وجهات النظر من الأزمة السورية أو غيرها.
يفرض موقع الخليج الإستراتيجي قراءة متأنية وعميقة للمتغيرات العالمية المتسارعة. يجدر التذكير بأن الخليج كان مسرحا لنهاية الحرب الباردة إثر غزو الكويت في 1990 والشاهد على بروز الأحادية الأميركية التي رعت حرب العراق التي همشت منظومة مجلس التعاون الخليجي. وفي السنوات الأخيرة كانت تداعيات الفوضى التدميرية وصعود الدور الروسي والاتفاق النووي مع إيران من المؤثرات المباشرة على تموضع الرياض وأخواتها إزاء تفاقم التحديات. وإذا كان “قانون جاستا” قد توج حملة عالمية من التودد للمحور الإيراني ومن الضغط على المملكة العربية السعودية، فإن الصلة الأميركية-الخليجية تبقى حيوية ضمن لعبة المصالح المتبادلة والحاجة الإستراتيجية.
ومن هنا لا يتوجب انتظار صياغة إستراتيجية دونالد ترامب الخليجية والشرق أوسطية، بل يبدو من الأفضل صياغة رؤية سعودية وخليجية للعلاقة مع واشنطن، عبر التركيز على أولوية ضرب الإرهاب ووقف التوسع الإيراني والعودة إلى مبادرة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز بشأن النزاع الإسرائيلي-العربي وبلورة مناخ إقليمي مستقر سياسيا واقتصادياً.
في حال تنسيق أفضل لسياساتها المالية والاقتصادية، يمكن لمجلس التعاون الخليجي أن يشكل سادس تكتل اقتصادي في العالم، وهذا العامل الاقتصادي بالإضافة إلى حيوية الموقع والأدوار، يؤكد، من دون شك، على صعود مجلس التعاون الخليجي وتحوله إلى مركز الثقل العربي والنواة لإعادة بناء النظام الإقليمي العربي في مواجهة التوسع الإيراني والمفاجآت الإقليمية الأخرى.
أمام تغير التركيبة الإقليمية والدولية وتحول الشرق الأوسط إلى وضع جديد، يتغير مفهوم الأمن الإستراتيجي لجهة تنوع اللاعبين الدوليين في المشرق خصوصاً، ولأن دول مجلس التعاون تقع ضمن محيط إقليمي أوسع تتفاعل معه تأثراً وتأثيراً. ومن هنا لا بد لمجلس التعاون من العمل على مسارين متوازيين: بناء القدرات الذاتية وفق نظرة لا تقتصر على البعد العسكري، والتركيز على تهديدات الأمن الوطني وأولها الإرهاب، وثانيها الخلل في التركيبة السكانية. وتاليهما التأقلم مع متغيرات السياسة الأميركية والسياسات الأوروبية تجاه المنطقة، مع العمل على تفعيل العلاقات الخليجية-الآسيوية، والخليجية-الإسلامية وخاصة الدول المحورية وذلك لموازنة الأدوار الغربية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس