توالى على حكم الفلبين في العصر الحديث ثلة من الرؤساء، كان لكل منهم حكاية ونكهة مختلفة. فالديكتاتور الأنيق فرديناند ماركوس، الذي ضحت به واشنطون باسم الديمقراطية وحقوق الانسان على نحو ما فعلته مع شاه ايران، ارتبط إسمه بحكايات الفساد وولع زوجته، ملكة جمال الفلبين السابقة إيملدا، بجمع الأحذية الثمينة. وكورازون أكينو، التي خلفته، جسّدت حالة المرأة الفلبينية الشعبية التي لا تتعدى معرفتها بالسياسة وشئون الحكم حدود مطبخها، فعانت من الانقلابات العسكرية الفاشلة. والجنرال فيدل راموس الذي جاء بعدها عـُرف بمحاولاته إعادة الوهج إلى منصب الرئاسة عبر الحزم والتجديد لنفسه، فتعثر وفشل. والممثل السينمائي المغمور جوزيف ايسترادا حاول الانتصار للفقراء والمهمّشين فتكالبت عليه النخب المخملية وجردته من السلطة في انقلاب ابيض، لتأتي بعده نائبته غلوريا ارويو ماكاباغال التي لوثت سمعة اسرتها السياسية العريقة بوحول الفساد فكان عقابها السجن من بعد رفاهية قصر “مالاكانيان” الرئاسي.
واليوم يحكم الفلبين شخصية بنكهة غريبة أخرى ليبدأ فصل جدير من الإثارة التي قد تنتهي نهاية مأساوية. هذه الشخصية هي “رودريغو دوتيرتي” وهو محام ومشرع وسياسي قضى سنوات طويلة من عمره كعمدة منتخب لمدينة دافاو، سائرا على درب والده وأجداده ممن حكموا وأداروا هذه المدينة الفلبينية الجنوبية. وخلال أكثر من عقدين في هذه الوظيفة استطاع أن يفـعّــل القانون والنظام وينجح في ضرب أوكار المجرمين ومهربي المخدرات ورعاة العنف والانفلات والتسيب، الأمر الذي أكسبه سمعة الرجل الحاسم في قراراته بين مواطنيه الذين استبد بهم الحنين إلى الأمن والإستقرار اللذين تراجعا كثيرا في الفلبين منذ سقوط الرئيس الأسبق ماركوس، فنظروا إليه كمنقذ بعثه الرب، وهو ما تجلى في فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
لكن مشكلة دوتيرتي أنه مثير للجدل بسبب مواقفه وآرائه الصادمة وسلاطة لسانه. إذ لم يسبق أن أثار زعيم فلبيني جدلا في وسائل الإعلام والأوساط الدبلوماسية كذلك الذي أثاره قبل وبعد إنتخابه. فهو وصف بابا الفاتيكان بـ”إبن العاهرة” دون إكتراث بمشاعر الغالبية الساحقة من مواطنيه الذين يعتنقون الكاثوليكية، ثم استخدم الوصف نفسه بحق الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبيل إجتماعهما المقرر على هامش قمة رابطة آسيان في لاوس في مطلع سبتمبر الماضي دون أدنى إعتبار لعلاقات بلاده الاستراتيجية الطويلة مع واشنطون. وهو الذي قال أيضا أنه سيقتل زعماء الجريمة والعنف والارهاب والمخدرات ويأكل لحومهم نيئا ثم يرمي بقاياهم في خليج مانيلا دونما اكتراث بما قد يصيبه من قبل دعاة ومنظمات حقوق الإنسان الغربية والأممية. وهو من رفض الالتقاء بأمين عام الأمم المتحدة “بان كي مون” في قمة لاوس المشار إليها، بدعوى أنه “إنسان أحمق”، على حد تعبيره.
وفي أغسطس المنصرم انتقد دوتيرتي الأمم المتحدة إنتقادا لاذعا غير مسبوق، مشيرا إلى فشلها الذريع في محاربة الجوع والإرهاب ووقف قتل المدنيين في سوريا والعراق، وقائلا: “أيتها الأمم المتحدة إذا كنت تستطيعين أن تقولي شيئا واحدا عني، فيمكنني أن أقول 10 أشياء عنك تبرهن كلها على أنك فاشلة ولاجدوى منك”. وبعد ذلك شبّه نفسه بالزعيم النازي هتلر ضاربا بعرض الحائط ما قد يثيره ذلك من حساسية في أوربا. ومؤخرا أعلن أنه سوف يسحب الفلبين من عضوية الجنائية الدولية.
تعود جذور دوترتي إلى أصول برتغالية وأسبانية وصينية وملايوية، بل تسري في عروقه ايضا دماء عربية من جهة أمه، وهو ما لا يعرفه الكثيرون. وتزوج مرتين: كانت الأولى من سيدة أمريكية ذات أصول ألمانية هي “إليزابيث زيمرمان” التي انجبت له إبنه “باولو” وإبنته “ساره”. بينما كانت الثانية من سيدة فلبينية طلقها لاحقا.
وإذا كانت إثارة دوتيرتي للجدل باتت أمرا مفروغا منه، فإن إبنته سارة مثيرة للجدل أيضا. فهذه الشقراء التي خلفته في منصب عمادة دافاو بالانتخاب تحمل جينات أبيها أكثر من جينات أمها الأمريكية لجهة الصرامة مع المخلين بالأمن والنظام، ولجهة الإصرار والعزيمة في بلوغ الهدف. بل إنها تشبه أباها أيضا كشخصية سليطة السان وقوية المراس.
فعلى الرغم من رغبتها في أن تصبح طبيبة، كما قالت في عدة مقابلات تلفزيونية، إلا إنها امتهنت المحاماة كأبيها، ثم دخلت الانتخابات البلدية في دافاو في مواجهة مرشحين أقوياء كبار ففازت عليهم فوزا ساحقا لتدخل التاريخ كأول إمرأة وأصغر شخصية سنا تتولى عمادة المدينة. وبمجرد تسلمها منصبها رددت شعارات أبيها بضرورة مطاردة المجرمين وقتلهم. وحينما علقت إحدى طبيبات النساء تعليقا ساخرا على خبر حملها لثلاثة توائم ردت لها الصاع صاعين عبر حسابها على الانستغرام مما جعل الطبيبة تعتذر.
من جهة أخرى بدت سارة مثيرة للجدل في أكثر من واقعة. فعندما تطرق والدها الى قضية ضحايا الاغتصاب في خضم حملاته للفوز برئاسة الفلبين كتبت سارة في الانستغرام انها تعتبر نفسها من ضحايا الاغتصاب لانها تعرضت له وهي شابة، الامر الذي أحرج والدها وجعله ينفي الخبر ويُعزيه الى ولع إبنته بالحكايات الدرامية. وفي واقعة أخرى سنة 2011 سددت لكمة لضابط مكلف من قبل إحدى المحاكم بتنفيذ حكم بإزالة بيوت مكتظة بالسكان في أحد أحياء دافاو الشعبية. وفي 2014 أوقفتها شرطة المرور بتهمة تجاوز السرعة المقررة اثناء قيادتها لسيارتها الخاصة. وقد قيل وقتها أن بعض الحاقدين عليها دبروا لها تلك المكيدة لإذلالها وتشويه سمعتها. إذ كان واضحا أن مخالفتها للسرعة لم تكن بتلك الخطورة المستوجبة لإيقافها بدليل أنها كانت تقود سيارتها بسرعة 57 كلم في الساعة بدلا من السرعة المقررة وهي أربعين كلم.
Elmadani@batelco.com.bh
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين