تطالب السلطات التركية اليوم بعد الانقلاب الفاشل برأس الداعية الإسلامي الأشهر محمد فتح الله غولن، الذي بدأ “نشاطه الدعوي” قبل أكثر من نصف قرن، والذي تأثر بأفكاره وتفسيراته الدينية ملايين الأتراك، بمن فيهم القادة أربكان وإردوغان وداود أوغلو وعبدالله غول ومئات غيرهم من النخبة والعامة.
“فتح الله غلون”، كما يعرف الجميع، مقيم اليوم في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأميركية، الدولة التي لا يرمز إليها في اللغة التركية وأعلام تركيا بما هو معروف، أي USA، بل تسمى ABD، والتي هي بوادئ ترجمة اسم الولايات المتحدة الأميركية باللغة التركية وهو Amerika Birlesik Devletleri أي “أميركا بيرلشك دولتلري”.
ولا تطالب تركيا اليوم بتسليم الداعية “غولن”، رأس الثقافة الإسلامية المجاهدة ضد الأتاتوركية والعلمانية والتغريب، بل تخاصم من أجل ذلك قائدة “حلف الناتو” فحسب، بل دخلت الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان، منذ الإعلان عن إجهاض انقلاب 15 يوليو 2016، في صراع مرير مع الاتحاد الأوروبي، كذلك بعد تهديد تركيا بالتنكب عن الإجماع على تحريم حكم الإعدام، تمهيدا ربما لتعليق الداعية غولن وأنصاره من ضباط وقضاة ورجال أعمال وساسة على حبال المشانق في أقرب فرصة، وفور استلام “الداعية المشبوه” من السلطات الأميركية، رغم أن “غولن” أفنى عمره في نشر الدين في الخافقين، والترويج لما اعتبره “الإسلام الصحيح”، كما ينبغي أن يفهم في هذا العصر.
الداعية “غولن” يقف على رأس إمبراطورية مالية وإعلامية وسياسية ودعوية وتعليمية هائلة كما هو معروف كذلك، وهو إلى جانب هذا كله صاحب عدد لا حصر له من أشرطة الكاسيت والفيديو ووسائل النشر، والكثير من الكتب الدعوية والروحية والوجدانية، التي طبع منها عشرات ومئات آلاف النسخ، وترجمت بعضها إلى اللغات الإنكليزية والألمانية والروسية والبلغارية ومختلف اللغات التركية وكذلك اللغة العربية.
هذه الكتب المترجمة باللغة العربية تنشرها في القاهرة “دار النيل للطباعة والنشر” التي تنشر كذلك العديد من الكتب الأخرى للتعريف بالمجهود الدعوي للداعية “فتح الله غولن” و”مشروع الخدمة”، ومنها كتاب بعنوان “فتح الله غولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية” 2010 كمثال.
من أبرز هذه الكتب المترجمة إلى العربية ضمن أعمال الداعية، كتاب “أسئلة العصر المحيرة” Arsin Getirdigi Tereddtler، من ترجمة “أورخان محمد علي”، ومنشورات عام 2002.
الكتاب موجه للقراء الشباب من الأتراك خاصة، داخل تركيا وخارجها، ويضم إجابات الداعية عن الكثير من الأسئلة الموجهة إليه، اختار منها المترجم نحو 64 سؤالا أساسيا مع إجاباتها، في كتاب متوسط الحجم، متقن الطباعة يقع في 344 صفحة.
سأختار من محتويات الكتاب مجموعة من الأسئلة، وأحاول أن ألخص بعض إجابات الداعية “غولن” قدر الإمكان:
1 – ما عدد الأنبياء الذين جاؤوا إلى الدنيا؟ أكانوا كلهم رجالا؟ ولماذا؟
2 – بما أن الله سبحانه لا يحتاج إلى عبادتنا فلماذا لا نقوم بعباداتنا كما يحلو لنا؟
3 – ما الحكمة في نزول القرآن منجّما- أي بالتدرج أو مفرقا- في ثلاث وعشرين سنة؟
4 – سؤال حول خلق أمنا حواء من ضلع آدم.
5 – ما رأيكم فيما يقال عن العثمانيين؟ ولماذا أسلم الأتراك؟
6 – يقال إن الإنسان عندما لم يستطع إيضاح وتفسير بعض الظواهر الطبيعية اخترع فكرة الدين، فهل تقدم المدنية يزيل الحاجة إلى الدين؟
7 – كيف تم انتقال الإنسان إلى قارة أميركا؟
8 – كيف نتصرف تجاه إخوتنا الذين انحرفوا عن الدعوى وأصبحت علاقتهم بها باردة؟
9 – كيف يمكن صيانة أنفسنا من أخطار نزوات الشباب؟
10 – كيف تقيمون توصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) بضرب النساء؟
11 – يتعرض موضوع الحريم في الدولة العثمانية إلى انتقادات كثيرة، فهل تشرحون لنا هذا الخصوص؟
12 – أطلقوا على السلطان عبدالحميد لقب “السلطان الأحمر” فهل كان كذلك؟
13 – انتشر الإسلام بسرعة، ولم يستطع العالم اليهودي والمسيحي التغلب عليه مدة 1300 سنة، فما أسباب هذا؟ وما سبب الهزيمة الحالية؟
14 – هل تشرحون لنا معنى الآية “لا إكراه في الدين”؟
15 – ما حكم طاعة الإمام؟ فالقرآن يأمرنا بطاعة أولي الأمر؟
16 – ما السبب الكامن وراء محاولة الإبقاء على نظرية دارون حية، على الرغم من ظهور نقائصها وعدم صحتها؟
17 – كيف يمكن أن نكون جندا لله تعالى؟ أيمكنكم شرح هذا ضمن إطار الجندية؟
18 – ما السبب في انتشار الإلحاد كل هذا الانتشار؟
19 – بما أن جميع الأنبياء ظهروا في جزيرة العرب، فكيف يكون الذين يعيشون في البلدان الأخرى مسؤولين من ناحية العقيدة والعمل؟
20 – ورد في القرآن الكريم “مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ”، وتنص آية أخرى “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”، أي أعطيت للإنسان إرادة الاختيار. كيف نستطيع التوفيق بين هذه النصوص؟
21 – يتساءل البعض لماذا لا نرى الله؟ كيف نجيب هؤلاء؟
وننتقل في هذا المقال وما يليه إلى عرض بعض إجابات الداعية فتح الله غولن عن هذه الأسئلة، فهو يجيب عن السؤال الأخير مثلا بشرح أسباب عدم قدرتنا على رؤية الخالق فيقول “الرؤية مسألة إحاطة، فمثلا هناك جراثيم في جسم الإنسان، وقد توجد ملايين من البكتيريا أسفل سن واحدة، وهذه البكتيريا تستطيع بما أوتيت من قابليات وإمكانات نخر سن الإنسان وتخريبها، ولكن الإنسان لا يستطيع سماع صوتها أو ضجيجها، كما لا يحس بها ولا بوجودها. كما أن هذه البكتريات لا تستطيع رؤية الإنسان ولا الإحاطة به، ولكي تستطيع الإحاطة به عليها أن تكون في موضع مستقل وخارجي عنه، ويمتلك في الوقت نفسه عيونا تلسكوبية.
والآن لنفكر في الله تعالى، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): “ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس”.
“إذاً فلنتصور هذه العظمة الهائلة، وأنتم الذين تعدون بالنسبة إلى هذه الأكوان أجزاء ميكروسكوبية، كيف تستطيعون ادعاء إحاطتكم بالكون والمكان”.
ويضيف الداعية غولن: “من جانب آخر فإن النور حجاب الله جل جلاله وستّار، ونحن لا نستطيع حتى الإحاطة بالنور، وقد سأل الصحابة النبي- فيما يروي مسلم- بعد عودته من المعراج: أرايت ربك؟ فأجاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) حسب ما يرويه أبو ذر رضي الله عنه: هو نور أَنّى أراه؟”.
ولكن “النور” يضيف غولن، “مخلوق، والله تعالى هو منوّر النور ومشكّله ومقوّمه ومصوّره، فالنور ليس الله بل مخلوق له، وهذا يوضحه حديث آخر عن الله تعالى يقول: “حجابه النور”، أي هناك نور بينكم وبينه، وأنتم محاطون بالنور”.
ويضيف الداعية غولن مختتما جوابه عن هذا السؤال فيقول: “وفي يوم القيامة يستطيع من أجهد فكره في الدنيا أمام الآيات الكونية أن يراه، لذا يستطيع النبي موسى عليه السلام، ويستطيع سلطان الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم رؤيته آنذاك، أما الآخرون فيرونه كل حسب مرتبته، ويعد هذا الأمر تشويقا كبيرا وحضّاً ودعوة للتفكر والتأمل، فالذين يريدون الحصول على الدرجات العليا في الآخرة عليهم أن يجددوا قلوبهم وأفكارهم، وبتعبير أصح عليهم أن يكونوا في هذه الدنيا أصحاب همة عالية وروح وفكر يليق بحظوة رؤية الله تعالى يوم القيام، أي ألا يرحلوا من هذه الدنيا بزاد قليل، طبعا كل حسب استعداده وقابليته”. (ص22).
ويمكن القول تعليقا على إجابات الداعية غولن، أن مسألة وجود الخالق وطبيعته وقدرته من صميم القضايا الغيبية الإيمانية التي لا تحسمها الأدلة العلمية والفيزيائية وغيرها، فهذه الأدلة تفتح بدورها المجال لأسئلة أخرى وتسلسل في الاستدلال لا آخر له ومن الأدلة الأخرى المعروفة في مجال الاستفادة من الاكتشافات والاختراعات العلمية تشبيه وجود الخالق بالتيار الكهربائي الذي يجري في الأسلاك دون أن نراه، وقد يعمد المشكك إلى القول إننا نستطيع أن نرى ونبرهن على وجود الكهرباء والجراثيم ببعض الأدوات والآلات، بينما يستحيل ذلك مع الذات الإلهية التي هي قضية إيمانية بحتة، تتفاوت درجتها وأدلتها والشعور بها من شخص لآخر، كما هو الأمر مع الشؤون الغيبية الأخرى.
سنرى حديث الداعية فتح الله غولن عن نظرية داروين في التطور في مقال قادم.