لا حاجة الى بحث طويل عن صلة بين الاحداث التي مسرحها الشرق الاوسط والمناطق القريبة منه. من يبحث عن مثل هذه الصلة، يكتشف ان هناك بالفعل ما يربط بين هذه الاحداث. الرابط عمليات تطهير ذات طابع عرقي أحيانا ومذهبي في معظم الأحيان، كما يجري في بغداد وبعض المحافظات العراقية القريبة منها… او في دمشق ومحيطها وحمص والشريط الساحلي السوري.
بقدرة قادر، منعت تركيا توسّع رقعة سيطرة الاكراد في سوريا. صار هناك إقرار روسي ـ إيراني ـ أميركي بحقها في التدخل في جرابلس، الواقعة داخل الأراضي السورية، والتي كانت تحت سيطرة “داعش”. جاء التدخل العسكري التركي في وقت كان الاكراد على استعداد للاستيلاء عليها.
تحرّكت تركيا عسكريا. قصفت جرابلس ومحيطها بالمدفعية، فجر الرابع والعشرين من الشهر الجاري، قبل ان يتدخل سلاح الجوّ التركي تمهيدا لدخول عناصر من “الجيش الحر” المدينة ذات الاهمّية الاستراتيجية الكبيرة. تعود هذه الاهمّية الى قرب الى قرب جرابلس من من الحدود السوريةـ التركية والى انها تقع على الضفّة الغربية لنهر الفرات.
ما لبثت، بعد ذلك، ان تحرّكت دبابات وقوات تركية في اتجاه جرابلس لدعم “الجيش الحر”، الفصيل المعتدل في الثورة السورية، الذي عانى في الفترات الماضية من مشاكل كثيرة في مقدّمها الامتناع عن تزويده بالاسلحة المطلوبة، اقلّه لردع الميليشيات المذهبية التابعة لإيران و”شبيحة” النظام السوري وبراميله المتفجرة التي تستهدف المدنيين… فضلا بالطبع سلاح الجو الروسي الذي يركّز في قصفه على المستشفيات والمدارس والتجمعات المدنية.
خلاصة الامر انّه بات هناك اعتراف من الروس والأميركيين والإيرانيين بوجود منطقة نفوذ تركية في سوريا. من يحتاج الى دليل إضافي على ذلك، يستطيع العودة الى تصريحات نائب الرئيس الاميركي جو بايدن الذي اكّد في اثناء زيارته الأخيرة لتركيا انه ممنوع على الاكراد تجاوز الفرات في اتجاه الأراضي التركية. يدرك بايدن، مثلما يدرك الاكراد، بمن في ذلك “وحدات حماية الشعب”، ان الحماية الاميركية لهذه الميليشيات هي التي مكّنتهم في الثاني عشر من اغسطس من الاستيلاء على منبج التي لا تبعد كثيرا عن جرابلس. وضع نائب الرئيس الاميركي الاكراد في سوريا امام امر واقع. وضعهم عمليا في قاعة الانتظار. تبدو رسالته اليهم واضحة كلّ الوضوح. فحوى الرسالة ان لا مجال لتحركات سريعة على الأرض تفضي الى قيام كيان كردي مستقل في سوريا يمكن ان يرتبط لاحقا بكيان آخر لاكراد تركيا…
ليس سرّا انّ “وحدات حماية الشعب”، هي ميليشيات تابعة لحزب كردي في سوريا تابع بدوره لـ”حزب العمال الكردستاني” المحظور في تركيا. كان على تركيا التحرّك فتحرّكت. الثابت ان الكلّ يسترضي تركيا هذه الايّام، خصوصا بعد اللقاء الذي انعقد في سانت بيترسبرغ بين فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان. يشمل استرضاء تركيا ايران التي يبدو انّها قررت، بدورها، الحصول على اعتراف بنفوذها في سوريا من منطلق مذهبي. وهذا يفسّر الى حد كبير ما حدث في داريا القريبة من دمشق التي أصبحت بعد ترحيل أهلها منها مرتعا لـ”شبيحة” النظام والميليشيات الشيعية التابع لإيران.
يبدو واضحا انّ كلّ هذه الاحداث تصب في منطق توزيع سوريا على تركيا وايران وروسيا بموافقة أميركية توفّرها المفاوضات التي تجري بين حين وآخر بين وزير الخارجية الاميركي جون كيري ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. صحيح ان على كيري الإعلان دائما ان لا اتفاق كاملا بعد مع روسيا في شأن سوريا، لكنّ الصحيح أيضا انّه لا يترك فرصة او مناسبة كي يعلن ان ليس ما يشير الى اعتراض أميركي في العمق على ما يقوم به فلاديمير بوتين، خصوصا في سوريا.
من وضع حدّ للتمدد الكردي في الشمال السوري، الى متابعة تهجير اهل السنّة من دمشق والمناطق المحيطة بها ومن حمص، تتضح الخطوط العريضة للمشروع الروسي ـ الاميركي للشرق الاوسط الذي يحظى في ما يبدو بمباركة ايران وإسرائيل في الوقت ذاته. لا يمكن في ذكرى مرور عام على ارسال روسيا طائراتها الى قاعدة حميميم القريبة من اللاذقية لمنع سقوط النظام، تجاهل ان كلّ خطوة اقدم عليها بوتين كانت بالتنسيق مع بنيامين نتانياهو. اكثر من ذلك، هناك غرفة عمليات مشتركة تتعاطى مع التفاصيل الدقيقة للوضع السوري منعا لاي احتكاك من أي نوع بين روسيا وإسرائيل!
يترافق الاعتراف بالنفوذ التركي في شمال سوريا والاقرار بالوجود الروسي على طول الساحل السوري مع توسّع إيراني في دمشق ومحيطها وتطورات خطيرة في أماكن مختلفة من العراق من بينها بغداد. تتعرض بغداد لعملية تغيير في العمق تستهدف طبيعتها وتوزع السكان على احيائها من منطلق مذهبي ليس الّا، ليست ايران بعيدة عنه.
كيف دخلت تركيا الى جرابلس، بكلّ هذه السهولة؟ اين السيادة السورية التي يتشدّق بها بشّار الأسد بين حين وآخر؟ كيف سقطت داريا في يد النظام وميليشيات ايران؟ كيف جرى ترحيل سكّانها من ارضهم بعدما صمدوا ما يزيد على اربع سنوات؟
الجواب عن مثل هذا النوع من الأسئلة لا يمكن عزله عن طبيعة المرحلة التي يمرّ فيا الشرق الاوسط. الجديد ان عملية تفتيت سوريا دخلت مرحلة متقدّمة في ضوء ما حصل في العراق حيث لم يعد الهمّ الاوّل استعادة الموصل من “داعش”، بل ماذا بعد استعادة الموصل من هذا التنظيم الإرهابي؟
يبقى سؤال أخير، الى متى يبقى لبنان خارج حال المخاض التي يمرّ بها العراق وسوريا؟ هل يكتفي العالم بالتغاضي عن انّ “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الايراني وضع الاسس للعلاقات الجديدة القائمة بين الدول العربية الشرق الاوسط؟
تقوم هذه الأسس على ان الرابط المذهبي في المجتمعات العربية فوق الرابط القومي والوطني. ذهب الحزب الى سوريا لحماية ما سماه قرى لبنانية داخل الأراضي السورية يقيم فيها شيعة. انتقل بعد ذلك الى “حماية” المقامات الشيعية في دمشق وقربها. لا يزال هذا الحزب، الذي لديه وزيران في الحكومة اللبنانية، داخل الأراضي السورية. ماذا سيفعل في حال وضعت ايران يدها نهائيا على دمشق ومحيطها بمباركة روسية ـ أميركية ـ تركية ـ إسرائيلية؟ هل يكتفي بما يفعله الآن، أي بمنع انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية… ام يذهب الى ابعد من ذلك في جهوده الهادفة الى تغيير طبيعة المجتمع في لبنان وتغيير النظام في الوطن الصغير بشكل نهائي، بما يتلاءم مع التغيير العميق الذي شهده العراق وتشهده سوريا؟
الكثير سيعتمد على صمود اللبنانيين واستمرارهم في مقاومة المشروع التوسّعي الايراني الذي يعبر عن نفسه في الأراضي اللبنانية بين حين وآخر اكثر من ايّ مكان آخر.