انتقل مركز الثقل السياسي، في العالم العربي (حرب اليمن أولى التجليات) من المثلث المصري ـ السوري ـ العراقي، إلى السعودية ودول الخليج. نجم الانتقال عن انهيار ضلعين، هما سورية والعراق، ومجابهة الضلع المصري لتحديات داخلية: أمنية، واقتصادية، وسياسية، غير مسبوقة، تحد من قدرته على الحركة.
لا يحدث انتقال مراكز الثقل السياسي بين ليلة وضحاها، ولا نتيجة حدثٍ واحد، بل يتجلى كتتويج لعملية تراكمية بطيئة، أحياناً، وغير مرئية، أحياناً. ويمكن، دائماً، بأثر رجعي، أن نرى في حدث بعينه تحوّلاً مفصلياً، رغم أن الحدث نفسه لم يكن يوحي بذلك في زمنه.
لذلك، يمكن القول، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعقود الماضية، إن هزيمة عبد الناصر، والناصرية، في العام 1967 كانت بدية الانتقال. ويمكن، أيضاً، أن نرى في ارتفاع عائدات النفط بطريقة خرافية، في أواسط السبعينيات، بداية أخرى، وفي هذا السياق يدخل الغزو العراقي للكويت، وما تلاه من حروب، وتوريث الحكم في سورية، وأحداث أخرى كثيرة.
المهم أن أيديولوجيا المثلث المصري ـ السوري ـ العراقي كانت القومية العربية، وأن قضيته، وحروبه، الرئيسة كانت فلسطين، وعلى جبهتها، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين. والمهم، أيضاً، أن الأيديولوجيا الرئيسة لمركز الثقل السعودي ـ الخليجي الجديد هي مزيج من السنيّة السياسية، والعروبة المحافظة، وأن قضيته وحروبه الرئيسة (وقد بدأت بالفعل في اليمن) ستكون على الجبهة الإيرانية، وعلى التخوم المحتملة للشيعة السياسية في كل مكان آخر، إضافة إلى السنيّة الجهادية، إذا لم يتمكن من استرضائها، وإلى هذا يميل الأميركيون، على الأرجح.
لا نعرف، بالتأكيد، مدى قدرة مركز الثقل الجديد على ممارسة ما أراد لنفسه من دور، أو ما ألقته الأقدار على عاتقه في ظل عسر وندرة الخيارات. فهو يملك الكثير من المال، لكنه لا يملك ما يكفي من الموارد البشرية، ولن يتمكن من خوض حروبه دون الاعتماد على موارد آخرين، في الإقليم والعالم.
وهذا ليس ما تريد هذه المقالة التركيز عليه. فالفكرة الرئيسة، هنا، أنك بقدر ما تحاول التأثير على العالم تتأثر به، فلا يمكن فصل التطوّرات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، التي شهدتها بلدان المثلث المصري ـ السوري ـ العراقي على مدار نصف قرن، عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
كان أبرز التحوّلات، وفي طليعتها، صعود دور الجيش في السياسة، منذ انقلاب حسني الزعيم في سورية في العام 1949. وكان من بينها، أيضاً، انهيار البنى السياسية التقليدية، وصعود نظم سياسية راديكالية.
ستجد الدول، والمجتمعات، والأنظمة، في مركز الثقل السياسي الجديد نفسها أمام ممرات إجبارية وتحديات كهذه. فالجيوش، التي تقاتل، وإذا قاتلت، ستراكم الكثير من رأس المال المعنوي، الذي يحتاج إلى ترجمة سياسية، والمجتمعات التي يُقتل أبناؤها في الحروب تحتاج إلى عقود اجتماعية جديدة.
وفي السياق نفسه: نجمت علاقات أضلاع المحور المصري ـ السوري ـ العراقي مع بعضها بالمعنى السلبي والإيجابي، ومع بقية بلدان المحيط، بالمعنى نفسه، استناداً إلى اجتهادات خاصة بشأن الطريقة المثلى لإدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو ترجمة أيديولوجيا القومية العربية في السياستين الداخلية والخارجية.
لذلك، اتسمت العلاقات بالصراع المكشوف حيناً، وبالضرب من تحت الحزام حيناً، وتدخلت هذه الأشياء كلها في صياغة التحالفات الإقليمية والدولية. وهذا يصدق على دول مركز الثقل السياسي الجديد، التي لن يطول الوقت قبل ظهور التباين بينها في اجتهادات تخص القضايا، والصراع وطرق إدارته. وهذا، أيضاً، ينسحب على تبلور محاور وتحالفات إقليمية، ودولية، وظهور نقاط تماس جديدة.
في المحصلة النهائية: هبطت المسألة الفلسطينية درجات إضافية في سلم الأولوية والاهتمامات. والأهم أن إسرائيل، وبالمعنى الموضوعي للكلمة، أصبحت حليفاً في الباطن لدول تناصبها العداء في العلن. العالم العربي، الذي عرفناه في زمن مركزية المثلث المصري ـ السوري ـ العراقي لم يعد قائماً.
وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يُقال فيها وعنها، إلا أن أيديولوجيا القومية العربية كانت مسكونة بهموم حداثية وتحديثية: وهذا ما يصعب العثور عليه في مزيج السنيّة السياسية بالعروبة المحافظة المطروح بحكم الأمر الواقع.
ومع هذا، وعلى الرغم منه، انتقال هذه القوّة أو تلك إلى مركز الثقل السياسي لا يحدث ضد إرادة الجغرافيا والتاريخ. وفي الجغرافيا والتاريخ، وبهما، لم يكن وجود مركز الثقل المصري ـ السوري ـ العراقي، في النصف الثاني من القرن العشرين، مصادفة تاريخية سعيدة.
فمصر، وبلاد الرافدين، والشام، مراكز حضرية وحضارية، وإمبراطورية، منذ آلاف السنين. وعندما سار الدين في ركاب الإمبراطورية، في زمن الفتوحات الإسلامية، لم يُعمّر المركز الحجازي أكثر من عقدين من الزمان، وسلّم زمامه لدمشق، التي أصبحت حاضرة الأمويين، وعاصمة الإمبراطورية. وهذا، أيضاً، ما تناوبت عليه بغداد، والقاهرة في مراحل تاريخية مختلفة.
الماضي لا يعود، ولا يُستعاد. بلاد الرافدين والشام لم تعد قائمة (ولن تقوم لها قائمة في وقت قريب)، وحده المركز المصري ما يزال قائماً، لكنه غير قادر، في وضعه الحالي، على حمل عالم عربي بأكمله على أكتافه، والنهوض به. هذا العالم يتعرّض الآن للنهش من جانب الأتراك والإيرانيين، ليس لأنهم أولاد حرام، ولكن لأن فراغ القوّة يثير مطامع الآخرين. ولهذا كله أثمان إنسانية وسياسية باهظة.
انتقل مركز الثقل، صحيح، ولكن: من هنا إلى أين؟ هذا هو السؤال.
khaderhas1@hotmail.com