بتوقيعهم إتفاقا في شأن النقل الجوّي مع ايران، طوى الحوثيون، أي “أنصار الله” صفحة من التاريخ اليمني. أثبتوا أنّهم غير مهتمين بوحدة اليمن. بات هدفهم الآن إقامة دولة خاصة بهم وتابعة لإيران في شمال الشمال اليمني بعدما بدا واضحا أنّ ليس في استطاعتهم السيطرة على كلّ البلد.
يعتبر إتفاق النقل الجوي الذي يؤمن أربع عشرة رحلة جوية ايرانية إلى صنعاء إتفاقا ذا طبيعة استراتيجية وسياسية. الواضح إنّه ردّ على إنتقال سفارات خليجية وأخرى أجنبية إلى عدن مع الرئيس الإنتقالي عبد ربّه منصور هادي الذي يظلّ، إلى إشعار آخر، رئيسا شرعيا.
لم تتأخر ايران في ردّها على هرب الشرعية إلى عدن. لعبت ورقة في غاية الخطورة بتوقيعها إتفاقا مع ميليشيا مذهبية تسيطر على صنعاء ومطارها. وهذا يعني عمليا وضع جزء من اليمن تحت وصايتها غير المباشرة.
حصل هذا التطوّر في وقت ظهر ما يستجيب لهذا التوجّه الإنفصالي في الجنوب أيضا. هناك، محاولات للتخلّص من الشماليين في بعض الوحدات العسكرية المرابطة في عدن، واستبدال هؤلاء بعناصر من “اللجان الشعبية” التابعة للحراك في الجنوب. وهذه اللجان الجنوبية هي غير “اللجان الشعبية” و”اللجان الثورية” التابعة للحوثيين. إضافة إلى ذلك، ثمّة محاولات لفرض حصار على بعض وحدات الجيش المرابطة في منطقة ردفان (الجنوبية). يترافق ذلك مع مع تخوف من حدوث ردود فعل من الطبيعة نفسها في الشمال، علما أنّ ذلك لا يزال مستبعدا، أقلّه إلى الآن.
هناك ظاهرة أخرى تثير القلق. على سبيل المثال، وليس الحصر، منزل علي سالم البيض في عدن الذي استولى عليه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، رحمه الله، بعد أحداث العام ١٩٩٤، أي قبل ما يزيد على عشرين عاما، استعاده أصحابه. كذلك، صودرت أملاك، لا يزال عددها محدودا، لشماليين في عدن ومحيطها.
استحوذ أصحاب بعض هذه الممتلكات عليها بطريقة شرعية. آخرون إستحوذوا عليها وكأنّ هناك غزوا للجنوب من الشمال. هنا، إختلط الحابل بالنابل، بين الشرعي وغير الشرعي. لكنّ هذه التطوّرات المخيفة تشير إلى أن أن الإنفصال تحصيل حاصل وأنّ صنعاء لن تتحكّم بعدن بعد الآن.
مع سيطرة ايران على مطار صنعاء، بات الإنفصال واقعا. الدليل على ذلك طريقة تعاطي زعيم “أنصار الله” عبد الملك الحوثي مع خروج الرئيس الإنتقالي إلى عدن، خصوصا أنّ عبد ربّه عاد عن إستقالته بمجرد بلوغه عاصمة الجنوب.
ماذا يقول الحوثي ردّا على هرب الشرعية إلى عدن؟ يؤكّد بداية أن من حقّ عبد ربّه الإقامة في أي مكان يريده في اليمن، لكنّه يلوم الرئيس الإنتقالي على تقديم إستقالته. ثم يلومه على رفضه أن يكون في الإقامة الجبرية في صنعاء. إنّه منطق اللامنطق في التعاطي مع رئيس دولة، وإن كان رئيسا إنتقاليا، رفض في نهاية المطاف أن يكون في الأسر وأنّ يكون مجرّد غطاء شرعي لتصرّفات “أنصار الله”.
كان الخطاب الأخير للحوثي تعبيرا عن إفلاس الرجل في ضوء نجاح الرئيس الإنتقالي في الخروج من صنعاء. لماذا المطلوب من عبد ربّه منصور لعب الدور المطلوب منه إيرانيا؟ لماذا لا يلعب الدور الذي يريح اليمنيين، خصوصا أهل الجنوب الذي ينتمي إليه؟
في كلّ الأحوال، منذ خروج عبد ربّه منصور من صنعاء وتحرّره من الحوثيين وانتقال السفارات الأجنبية إلى عدن، لم تعد أمام عبد الملك الحوثي خيارات كثيرة، باستثناء التصعيد إلى أبعد حدود. هذا التصعيد كشف العلاقة بين الحوثيين وايران ومدى عمقها. كان هناك دائما من يرفض الإعتراف بهذه العلاقة وحقيقتها!
في طريقهم إلى الوسط والجنوب، اصطدم الحوثيون بالحاجز الشافعي. ما كانوا يعتقدون أنّه نزهة، تحوّل إلى كابوس خصوصا أنّهم أثاروا كل أنواع الغرائز المذهبية، بما في ذلك الحساسيات القديمة بين الزيود أنفسهم.
من يتذكّر أن تظاهرات جرت قبل أيام في “حجّة” التي تعتبر معقل العائلات الزيدية الكبرى في اليمن وأن هذه التظاهرات كانت موجّهة ضدّ “أنصار الله” وممارساتهم. هذا يعني بكلّ بساطة أنّ لا إجماع زيديا على عبد الملك الحوثي وما يمثّله وما يريد فرضه. لم يعد كافيا قوله أن هناك “شرعية جديدة” بعد سيطرة “أنصار الله” على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول ـ سبتمبر الماضي، كي يكون هناك نظام جديد يقبل به اليمنيون، خصوصا أهل العاصمة والمحافظات الشمالية.
في طليعة الأسئلة التي لا مفرّ من طرحها الآن، ما مستقبل الوسط الشافعي؟ وهل يمكن للجنوب أن يكون موحّدا، على غرار ما كان عليه بين الإستقلال في العام ١٩٦٧ والوحدة في العام ١٩٩٠؟
أيّا تكن الأجوبة عن مثل هذا النوع من الأسئلة، لا بدّ من الإعتراف بأن المشروع الإيراني في اليمن يتراجع بعدما تبيّن أنّ كلّ ما يستطيع تحقيقه هو الإكتفاء بجزء من الشمال يمكن أن يسيطر عليه الحوثيون. كلّ ما تبقّى كلام من دون مضمون، بما في ذلك كلام بعض قياديي “أنصار الله” عن أنّهم سيخرجون عبد ربّه منصور من عدن. سيخرج الرجل من عدن، عاجلا أم آجلا، ولكن بعد إنتهاء الدور المطلوب منه أن يلعبه، خصوصا أنّ هناك حسابات طويلة وقديمة بين الجنوبيين أنفسهم، أحدها حساب أحداث ١٩٨٦…
ما يمكن قوله الآن أنّ الوحدة اليمنية التي تحقّقت في العام ١٩٩٠، أي قبل ربع قرن، كانت حلما جميلا. إنتهى الحلم بكابوس ايراني. لا بدّ الآن من العودة إلى الواقع وإلى التساؤل كم عدد الكيانات التي ستنشأ في اليمن؟ السؤال الأهم في الأيام والأسابيع المقبلة، سيكون مرتبطا بالحوثيين أنفسهم وهو في غاية البساطة: هل في استطاعة “أنصار الله”، أي ايران، البقاء في صنعاء إلى ما لا نهاية، أي هل يمكن لصنعاء أن تكون عاصمة الدولة الحوثية في اليمن؟
ثمّة سؤال أخير في غاية الأهمّية وهو من شقين: هل يبقى ميناء “الحديدة” المهمّ مع “انصار الله”، أي تصبح ايران لاعبا مهمّا في البحر الأحمر حتّى لو لم تصل إلى باب المندب؟ وهل يتمكن الحوثيون من السيطرة على محافظة مأرب التي يمكن أن تؤمن لهم بعض ما يحتاجونه من موارد مالية في ضوء وجود نفط وغاز فيها؟