أقتبس من رؤوف قبيسي ما يأتي من مقالته في عدد “الملحق” 15 شباط، مع أني اختلف معه في نظرته إلى دور الأسطورة في خلق الأوطان وبنائها، ولا أوافق على التعامل معها من منظار تحقيري: “لم يطل المقام بالسويسري فيكتور آرغو بين ظهرانينا ليسبر أغوارنا ويعرفنا على حقيقتنا ويبوح بها، ويقول لقرائه “إن اللبنانيين أبطال العالم في تدمير الذاكرة الجماعية”. “الشعب العنيد” الذي غنّته فيروز، لا يكتفي بتجاهل الماضي والحاضر والمستقبل، والتنكر لتاريخه وذاكرته، بل يذهب إلى الأبعد، إلى ما هو أشد وأدهى: يدمّر البيئة، يفسد الماء والهواء والتربة، والزهر والشجر والضوء، والمعالم، وما فيها من صور ودقائق وتفاصيل”.
كنت قد صغت هذه الفكرة في رأسي عندما شاهدتُ بيوت بيروت المصدّعة التي يحفظ لنا معرض سمر مغربل في “غاليري أجيال” ذاكرتها ويدعونا إلى المحافظة عليها وعلى مثيلاتها. كانت غريتا نوفل، ربما أول من اهتم ببيوت بيروت المهدمة وأثار قضيتها وأدخلها إلى وعينا من باب الفن، في معرضها لدى “غاليري جانين ربيز” في العام 1996 على ما أظن. لا أنسى هذا التاريخ لأنه جاء بعد فترة قصيرة من غياب زميلي وصديقي رالف رزق الله بطريقة مفجعة. استمتعتُ بطريقة عمل غريتا التي استخدمت الكولاج مع الرسم بطريقة فذة مؤثرة في النفس. أذكر انها وضعت نصي الذي كتبته عن رالف في احدى لوحاتها ورسمت حول الكلمات، وجعلت العمل تحية إلى ضحية من ضحايا الحرب، ولو بشكل غير مباشر. لا أنسى طريقة عمل غريتا التي أصابها هوس تتبع آثار الحرب في الحجر والبشر. كانت تلك مرحلة البيوت المهدمة او تلك التي تهدمت واجهاتها وكانت تشعرها بالعجز والثورة معا.
بدت بيوت بيروت المهدمة وعماراتها مع قصاصات الجرائد وبقايا الانسجة والمواد التي الصقت بها، اكثر نطقاً من كل خطاب، ومن أفضل الوسائل ابتكاراً للقول إن بشراً كانوا ها هنا، قطنوها وعاشوا فيها. لهذه البيوت التي تبدو فارغة ومهجورة، قاطنون ربما غادروها طوعاً وربما غصباً تاركين صوراً على الحيطان وتذكارات في الزوايا، كما فعل رالف بنا، أو ربما هم بقوا بين ركامها. هل من يحمل ذاكرة البشر أكثر من تلك الاشارات المبثوثة في الأعمال الفنية التي تأخذنا الى إشارات أخرى وتحملنا على تقليب معانيها علّنا نتوصل الى الاتعاظ ذات يوم! بدت بيوتها مثل أشباح منتصبة باقية في مدينة تعرضت للموت والدمار، لكنها ظلت قائمة، الى أن هدم الحريري بعضها، وأعاد ترميم بعضها الآخر، وساهم في إعادة إعمار بيروت على رغم الجدال الذي أثير ويثار حول “سوليدير”. تستكمل سمر مغربل مشوار صديقتها. كانت تريد أن تسمّي المعرض “من بيتي لبيتك”، في إشارة الى الطريق الذي يصل بيتيهما ويحوي الكثير من هذه المنازل. معرضها يضم 3 منازل من الـ 15 منزلاً التي صنعتها من الطين المجبول وحولتها الى سيراميك. أكملت مشوار نوفل مع تلك البيوت التي ظلت شاهدة على حربنا، موقوفة على أطماع السماسرة، تنتظر من يقرر مصيرها. فإذا لم نتحرك بجدية فستظل موقوفة لتواجه مصيراً مجهولاً أو معلوماً بالأحرى، وهو الهدم، كما حال البيوت والقصور التي سبقتها. ستُهدم على الأرجح، إذ نادراً ما يستعاد دمجها بمشاريع تحافظ على قيمتها الفنية الكبيرة وتجعل منها جزءاً من عمل هندسي يظهر التكامل بين التراثي والحديث؛ فلا تمحى ذاكرة الحرب التي وحدها تقوّي مناعتنا ضد العنف الذي قد يأتي في كل لحظة. “الكسر”، تقول سمر، هو ما دعاها لإنجاز هذه البيوت. قطعة السيراميك الفنية التي تتعرض للكسر أو التشقق تفقد قيمتها فيرميها الفنان ويحزن لأنه كمَن يرمي جزءاً من نفسه. ربما هي ارادت الانتقام من خلال عملها على “الكسور والتشققات”، بالدعوة إلى ترميمها بدل محوها بضربة معول.
بيوت سمر الجميلة تحمل متعة الوجع امام هذا التراث المرمي لمصيره والمهمل مثل كل شيء في هذا البلد. بيوت بيروت موضوع التجاذب بين حراس البيئة والتراث وتجار السياسة والمال. أذكر منذ سنوات أني رأيتُ آرمة معلقة امام الشارع الذي يقودني الى منزلي كتب عليها: “منطقة تراثية” أو ما شابه. مذ وُضعت تلك الآلامة، لم يبق في الصنائع سوى بيوت تراثية معدودة تنتظر مصيرها المعلوم. تقول ابنتي فرح باعتراض، كلما اتت لزيارة بيروت، إنها تجد معالم المدينة متغيرة، فلا يعود في استطاعتها الاعتماد على ذاكرتها لتتعرف إلى احيائها. تشعر انهم يسرقون ذاكرتها إذ تتعرف في كل مرة إلى مدينة جديدة، حيث ابنية تهدم وناطحات وابنية زجاجية ترتفع، وشوارع تتغير وجهتها ومناطق تهجر تاريخها. كيف يمكن أن نعرّض مدينة عريقة مثل بيروت لكل هذا الاستهتار؟ رجاءً، حافظوا على بعض معالمها العريقة والتاريخية!
monafayad@hotmail.com
نُشِر في ملحق “النهار”