كان خطاب الرئيس سعد الحريري في الذكرى العاشرة لغياب والده خطابا شاملا. لم يؤكّد الخطاب، الذي أُلقي من بيروت، من مكان لا يبعد كثيرا عن مسرح الجريمة، أن مشروع رفيق الحريري لم يمت فحسب، بل أكّد أيضا أنه لا يزال هناك من يرفض محاولات وضع اليد على لبنان من منطلق أنّه مجرّد “ساحة” تابعة لمحور معروف.
لم يكن الخطاب عاديا بأيّ شكل، لا لشيء سوى لأنّه وضع الأزمة اللبنانية التي يعبّر عنها بقاء البلد من دون رئيس للجمهورية في إطارها الإقليمي الصحيح والواضح في آن.
يتمثّل هذا الإطار في أن المطلوب من لبنان أن يكون جزءا من محور يمتد من ايران وصولا إلى فلسطين. يمرّ هذا المحور، الذي يعني بين ما يعني أن ايران باتت دولة مطلة على البحر المتوسط وعلى تماس مع اسرائيل، بالعراق وسوريا ولبنان. يسعى هذا المحور إلى التمدّد في كلّ الإتجاهات على حساب كلّ ما هو عربي في المنطقة. لذلك لم ينس سعد الحريري اليمن والبحرين حيث تسعى ايران إلى تحقيق إختراقات على حساب البلدين ومستقبلهما.
كان خطاب سعد الحريري خطاب الوفاء. الوفاء لرفيق الحريري وما فعله من أجل لبنان واللبنانيين. كان خطاب وفاء للمملكة العربية السعودية التي ساعدت لبنان في الظروف الحالكة ولا تزال تساعده. لا عيب في تسمية الأمور بأسمائها. لا عيب إطلاقا في شكر المملكة على ما قدّمته للبنان، مثلما لا عيب في إعلان الحرب على التطرّف والإنحياز للإعتدال ولـ”الدولة المدنية” من دون مواربة.
كان خطاب سعد الحريري خطاب الدفاع عن الدولة اللبنانية ومؤسساتها مع التذكير بقوّة الصيغة اللبنانية على الرغم من كلّ ما تعرّضت له بعد إغتيال رفيق الحريري. في هذا المجال لا بدّ من التوقف عند التحدي الأوّل الذي يواجه لبنان حاليا. هذا التحدي عائد إلى أنّ “الدولة أصبحت رهينة معادلة أمسكت بقرار الحرب والسلم لتضع لبنان على حافة الصراع مع كلّ الجهات”.
تكمن أهمّية الخطاب أيضا في أنّه لا يكتفي بتحديد الداء الذي يعاني منه لبنان والمنطقة. هناك مشروع قابل للحياة لديه جذوره العميقة تلك التي زرعها رفيق الحريري. يقف هذا المشروع سدّا منيعا في وجه التحدّيات المطروحة. فرفيق الحريري “أمضى سنوات وسنوات لإعادة لإعادة بناء الدولة، وها نحن نواجه اليوم خطة لتفريغ الدولة وتدمير مؤسساتها. رفيق الحريري عمل لسنوات وسنوات على إعمار لبنان وإعادة دوره العربي والعالمي وعلى ضمان النمو الإقتصادي لتحسين معيشة المواطنين، وها نحن نواجه تهميشا للبنان في علاقاته العربية والعالمية وتدهورا في النموّ الإقتصادي ومستوى معيشة كلّ مواطن. رفيق الحريري كان قوّة الإعتدال في وجه التطرّف والتعصّب والعنف وها نحن نواجه اليوم جنون التطرّف والتكفير والإرهاب. إذا كان رفيق الحريري إفتدى لبنان بحياته في مثل هذا اليوم، فالوفاء له يقتضي أن نحمي لبنان بأهداب العيون”.
هناك بكلّ بساطة محاولة مكشوفة لعزل لبنان عن محيطه العربي. بلغت هذه الجهود ذروتها مع تشكيل حكومة “حزب الله” في السنة ٢٠١١ والتي كان على رأسها نجيب ميقاتي. في عهد هذه الحكومة تحقّق حلم “حزب الله”، وهو حلم ايراني، بمنع العرب من المجيء إلى لبنان والإستثمار فيه، بعدما صار لعائلات معيّنة “جناح عسكري” لا تقوى الدولة اللبنانية على مواجهته في ظلّ الحماية التي يؤمنها الحزب لهذا “الجناح”.
كيف يمكن الإستمرار في مشروع رفيق الحريري، أي في المشروع اللبناني؟ قد يكون هذا السؤال أهمّ ما طرحه الخطاب الذي حدّد بدقّة شديدة الحدود التي لا يمكن تجاوزها في الحوار مع “حزب الله”. هنا قال سعد الحريري: ” بكلّ وضوح، لن نعترف لحزب الله بأي حقوق تتقدّم على حق الدولة اللبنانية في قرارات السلم والحرب وتجعل من لبنان ساحة أمنية وعسكرية يسخرون من خلالها إمكانات الدولة وأرواح اللبنانيين لإنقاذ النظام السوري وحماية المصالح الإيرانية. أمّا ربط النزاع (مع حزب الله)، فهو دعوة صريحة وصادقة لمنع إنفجار النزاع. المهم بالنسبة إلينا هو رفض الإنجرار وراء الغرائز المذهبية، والإمتناع عن تحكيم الشارع في الخلافات السياسية. وهي أمور كانت محلّ جهود مشكورة من الرئيس نبيه برّي والأستاذ وليد جنبلاط، ونعتقد أنّ الفوائد التي نشأت من هذا الحوار حتّى الآن مناسبة للتأكيد على مواصلة هذا المسار”.
يرفض سعد الحريري في سياق الحوار مع “حزب الله” “إحتقار” الحزب لجامعة الدول العربية و”إختزال العرب بنظام بشّار الأسد ومجموعة ميليشيات وتنظيمات وقبائل مسلّحة تعيش على الدعم الإيراني لتقوم مقام الدول في سوريا ولبنان والعراق واليمن؟ وأين هي مصلحة لبنان بالتدخل في شؤون البحرين والإساءة إلى دولة لا تقابل لبنان واللبنانيين إلّا بالمحبّة والكلمة الطيّبة وحسن الضيافة”؟
في كلّ ما تناوله الخطاب، هناك همّ واحد محوره حماية لبنان في هذه الظروف العصيبة التي تمرّ بها المنطقة. من المهمّ جدا وجود سياسي لبناني يحيط بالظروف الإقليمية ويلمّ بها. هذا السياسي اللبناني يعي جيّدا ما معنى الإصرار على نشر البؤس في لبنان وربط جبهة الجنوب بجبهة الجولان والإصرار على نقل النار السورية إلى الأرض اللبنانية إرضاء لإيران ومشروعها الإقليمي.
هذا السياسي اللبناني الذي اسمه سعد الدين رفيق الحريري يتجرّأ على القول: “بالإختصار المفيد، نقول أنّ الحرب على الإرهاب مسؤولية وطنية تقع على عاتق اللبنانيين جميعا. وخلاف ذلك، سيصيب الحريق لبنان، مهما بذلنا من جهود لإطفاء الحرائق الصغيرة. النموذج العراقي بتفريخ ميليشيات وتسليح عشائر وطوائف وأحزاب وأفراد، لا ينفع في لبنان. وتكليف طائفة أو حزب مهمّات عسكرية هو تكليف بتسليم لبنان إلى الفوضى المسلّحة والفرز الطائفي”.
كلام كبير صدر عن سعد الحريري في الذكرى العاشرة لإغتيال والده ورفاقه. هذا الربط بين لبنان وما يجري في الإقليم دليل على عمق في استيعاب المعادلة الشرق أوسطية التي تسعى ايران إلى فرضها إنطلاقا من العراق والزلزال الذي تعرّض له في العام ٢٠٠٣، أي قبل نحو إثنتي عشر سنة. ما زالت أصداء هذا الزلزال وتفاعلاته تتردّد إلى اليوم. المشكلة أن لبنان ليس بعيدا عن ترددات الزلزال الذي مكّن المشروع الإيراني من التوسّع وصولا إلى اليمن. ما صدر عن سعد الحريري يصلح للبناء عليه وتأكيد أنّه لا يزال هناك من يفكّر في لبنان أوّلا ومصلحة البلد.
ما يبعث على الأمل أنّه لا يزال هناك زعيم عربي مسلم يتجرأ على تضمين خطابه مقطعا ورد فيه الآتي: “أنا أتيت لأقول لكم: أنا لست معتدلا. أنا متطرّف للبنان، للدولة، للدستور. أنا متطرّف للمؤسسات، للشرعية، للجيش، لقوى الأمن الداخلي، أنا متطرّف للنموّ الإقتصادي، لفرص العمل، للحياة الكريمة، أنا متطرّف للعيش الواحد، للمناصفة، أنا متطرّف لبناء الدولة المدنية. نعم، للدولة المدنية، دولة القانون التي يُحكم على كلّ مواطنيها بالقانون، وفقط بالقانون، لأنّ إختلافات الفقه والدين والمذهب والتفسير، لا يجب أن تنسحب على الدولة ولا على الحياة العامة”…
إنّه كلام كبير من مكان صغير إسمه لبنان يؤكّد أن مشروع رفيق الحريري لم يمت، على الرغم من مرور عشر سنوات على إغتيال الرجل.