حسن خضر
فكّرتُ يوم أمس في الكتابة عن “مديح لنساء العائلة” رواية محمود شقير الأخيرة. وفكّرت، أيضاً، في التعقيب على نيل الروائي الألباني، إسماعيل كاداريه، جائزة إسرائيل الأدبية، فهو نموذج لمَنْ يعرف كيف تؤكل الكتف، خلافاً لصديقي محمود شقير، الذي يشكّل نموذجاً صحيحاً وصحياً لما ينبغي لضمير الكاتب في أزمنة مأزومة أن يكون عليه.
مهما يكن من أمر، أجد في مشهد المواطنين المصريين، على ساحل المتوسط، بين أيدي جلاديهم الدواعش، مبرراً أخلاقياً لتأجيل الاهتمام بشؤون “ثقافية”، الكلمة التي يجب أن توضع بين مزدوجين، لأن قتل المواطنين المصريين يمثل، في الجوهر، مسألة ثقافية، أيضاً، ولأن الفعل الثقافي أخلاقي، وسياسي، في الجوهر.
ما المقصود بهذا الكلام؟
المقصود أن ثمة صلة بين أفلام البورنوغرافيا (الإباحية) وأفلام الدواعش التي تتفنن في تصوير القتل، فكلاهما يقوم على مبدأ انتهاك التابو، وتحدي الخيال في الذهاب إلى أماكن غير مألوفة، لا يجرؤ على الاقتراب منها، بالمعنى الاجتماعي، والثقافي، والأخلاقي السائد، وإن تكن أشباحها مقيمة في اللاوعي الفردي والجمعي. ولا قيمة، في الواقع، للمبررات الأيديولوجية، التي تقوم عليها “إدارة التوحّش” في أذهان الدواعش. فهذه الأشباح حاضرة في كل ثقافات الكون.
والمقصود، أيضاً، أن في مشهد الطيار الأردني الكساسبة، في القفص الحديدي، بعد الجولة بين الأنقاض، بثياب القتل البرتقالية، ومشهد المواطنين المصريين، على ساحل المتوسط، المُطل على أفق مفتوح، وقبلهم في مشهد الرهائن الأميركيين واليابانيين، وما يعيد التذكير بالذبيحة المقدسة، القربان، الذي عرفته كل ثقافات الكون، وما تزال كل ثقافات الكون مسكونة بما تبقى منه، في صورة رموز، وطقوس، ومفردات، تمثل بقايا أركيولوجية لزمن مضى وانقضى. بيد أن الوحش الداعشي يعيد استحضار ذلك الزمن من الكهف، ليصبح شاهداً لا على زمن مضى، بل على مستقبل في الانتظار.
والمقصود، أيضاً، أن المواطنين المصريين، وهم فقراء يركضون وراء لقمة العيش، لم يعتدوا على أحد، قُتلوا لأنهم مسيحيون، ما يعني أن ملايين المسيحيين العرب أصبحوا مستهدفين، بالمعنى الحرفي للكلمة. فإذا أضفنا إلى هؤلاء الشيعة، والمسلمين، الذين لا يعتنقون أيديولوجية الوحش التكفيرية، نصل إلى حقيقة أن تسعة تسعين بالمائة من المسلمين العرب وغير العرب أصبحوا مستهدفين، بالمعنى الحرفي للكلمة.
وإذا أضفنا إلى هؤلاء، وأولئك السيخ والهندوس والبوذيين واليزيديين، والمسيحيين الغربيين، ناهيك عن غير المؤمنين، نصل إلى حقيقة إضافية مفادها أن تسعة وتسعين بالمائة من بني البشر في العالم أصبحوا مستهدفين بالمعنى الحرفي للكلمة. هذه هي الخلاصة. أما كيف، ومتى تصبح، أو لا تصبح، قابلة للترجمة، فهذا أمر آخر.
كابوس، غير قابل للتحقيق، بالضرورة، ولكن أشباحه انتقلت من التجوال في كهوف عميقة الغور، في اللاوعي الجمعي، وفي التاريخ، إلى حاضر قائم ومقيم. والدليل أننا لم نعد نتكلم عن عرب وبلغار وترك وأميركيين وصينيين، بل أصبحنا نتكلم عن مسلمين وشيعة وسنة ومسيحيين ويزيديين وهندوس وصائبة ويهود، وعن مؤمنين وكفّار.
والمقصود، أيضاً، أن الشعوب، والمجتمعات، والثقافات، تمرض كما يمرض الإنسان. لم يعد من الصحي والصحيح تجاهل حقيقة أن الدواعش، على اختلاف تسمياتهم، هم أعراض مرض أصاب مجتمعات، وثقافات العرب والمسلمين. متى وكيف ولماذا؟ هذا لا يهم، الآن. فالخطوة الأولى على طريق العلاج، تتمثل في الاعتراف بحقيقة وجود مرض من نوع ما، قبل الخلاف والاختلاف بشأن التشخيص، والأسباب، والأعراض.
والأهم، من هذا كله، أن التشخيص، والأسباب والأعراض، أشياء تنتمي إلى الحقل الثقافي، في المقام الأوّل، أي يمكن التفكير فيها، وتحليلها، بأدوات ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة. ثمة الكثير من المقاربات الأمنية، والعسكرية، والسياسية، والاقتصادية، وكلها ضرورية، ومطلوبة، لكن المقاربة بعيدة المدى تظل ثقافية بامتياز.
والمقصود، أيضاً، أن لا أحد من بني البشر في أربعة أركان الأرض، بما فيهم العرب، ينفي حقيقة أن الكوارث البيئية، من نوع الجفاف، والتصحر، ونضوب الموارد والتلوّث، وزيادة معدلات الحرارة، وتآكل طبقة الأوزون، ظواهر تهدد مستقبل الإنسان على الأرض، ويستدعي تعاوناً مشتركاً، أو على الأقل، هموماً مشتركة، تتجاوز القوميات، والصراعات، والدول، والثقافات.
وبهذا المعنى يشكّل الدواعش، على اختلاف تسمياتهم، خطراً يتجاوز القوميات، والصراعات، والدول والثقافات، فابن تيمية لا يمكن أن يكون من مواطني الأزمنة الحديثة. وما يحدث في الواقع، وإن يكن دون اسم وتسمية، حرب حضارات. كفة الغرب العلمية والثقافية والإنسانية والسياسية فيها هي الرابحة والناجحة. وما لم يلتحق بها العرب فلن يربحوا ولن ينجحوا.
والمقصود، أيضاً، أن الستالينية قتلت أكثر مما فعل الدواعش، والماوية قتلت، أكثر منهم، والمستوطنون البيض في أميركا الشمالية قتلوا من الهنود أكثر، والمستوطنون اليهود الصهاينة، والفرنسيون في الجزائر، قتلوا أكثر، وحتى صدّام حسين، وبشّار ابن حافظ الأسد، قتلا من السوريين والعراقيين أكثر. ولكن هذا كله حدث ويحدث تحت راية اسمها التقدّم، التي كانت بدورها من ميراث عصر التنوير، وتجلت في سياق صفقة فاوستية بحجم الوجود الإنساني في أربعة أركان الأرض.
الداعشية تستدعي زمناً مضى، وفي استدعائها لزمن مضى ما يعيد التذكير بتجارب دموية عرفتها البشرية في زمن الحروب الدينية، وفي الحمى الألفية، التي اجتاحت بعض العالم في مطلع الألفية الثانية. الأزمنة الحديثة وُلدت من رحم تلك التجارب، وعلى أنقاضها. ومن مفارقات التاريخ، ومكره، وربما حماقة الإنسان، أن العرب يحتاجون هذا النوع من الحمى، والجنون الألفي، لدخول الأزمنة الحديثة.
khaderhas1@hotmail.com