“يتوجب على فرنسا ألا تعتبر مفهومها للحرية بمثابة الحقيقة المطلقة. فرنسا ليست ضمير العالم”، عبارة قالها وزير خارجية المغرب صلاح الدين مزوار بعد رفضه المشاركة في المسيرة العالمية التضامنية مع فرنسا إثر حادثة شارلي إيبدو، وجاء ذلك على خلفية أزمة دبلوماسية بين باريس والرباط اندلعت منذ سنة بعد محاولة الشرطة الفرنسية استجواب مسؤول أمني مغربي في منزل سفير المملكة قرب باريس، وأدى ذلك إلى تعليق الرباط اتفاق التعاون القضائي وإلى برودة دبلوماسية على أكثر من مستوى.
عبر تاريخ يتسم بصداقة تعكرها بعض الأزمات الصغيرة، كان لا بد للشراكة الاستثنائية كما يصفها الجانبان أن تدفعهما نحو حل الإشكالات الطارئة، وتحقق ذلك بعد مفاوضات طويلة أتاحت إعادة صياغة اتفاق التعاون القضائي وفق معاملة بالمثل قائمة على الاحترام كما تقول الرباط، وجرى تتويج المصالحة مع زيارة العاهل المغربي الملك محمد السادس لباريس في التاسع من فبراير وانعقاد قمة جمعته والرئيس فرنسوا هولاند. ومما لاشك فيه أن العوامل المتصلة بالتاريخ والجوار الجغرافي والعلاقات الإنسانية (1.3 مليون مغربي يقيمون في فرنسا و60 ألف فرنسي يقيمون في المغرب) وحجم المصالح المشتركة، لا تسمح للبلدين بممارسة الحرد أو العناد، خاصة أن الهجمة الإرهابية ضد فرنسا دلت على أهمية التعاون الدولي والإقليمي في هذا المضمار، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بشريكين يتبادلان الثقة والخبرات ضد التطرف والإرهاب. وذلك على عكس علاقة معقدة في ملاحقة الإرهاب “مع دول تحجب الكثير من معلوماتها أو تعطيها منقوصة” حسب مصدر فرنسي مختص.
هذا الخلاف الذي عكر صفو الصلات الثنائية ليس الأول، بل يتكرر كل فترة كما حصل في منتصف الستينات عند اغتيال زعيم المعارضة المغربية مهدي بن بركة في باريس والتوتر الذي تلاه بين شارل ديغول والملك الحسن الثاني، أو عند نشر كتاب جيل بيرو “صديقنا الملك” أوائل عهد فرنسوا ميتران في الثمانينات. ومنذ ذلك الحين تتحسن العلاقة الفرنسية المغربية عند وجود اليمين في الإليزيه أيام حكم جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وتعود لتتوتر مع وصول الاشتراكيين إلى الرئاسة في فرنسا، بيْد أن التفسير الأيديولوجي، أو التناغم بين الأشخاص، أو التنافس الجزائري المغربي على كسب الود وانتزاع موقع الشريك الأول لباريس، ليست مبررات كافية للإحاطة بأزمات غدت وكأنها روتينية داخل ثنائي لا يهتم ببعض التفاصيل أو تنقصه بعض المرونة لتفهم الآخر وتقدير أهمية الشراكة معه.
يرتبط تاريخ العالم العربي منذ قرون بتاريخ الغرب الأوروبي، وهذا الماضي الاستعماري لبعض أوروبا لا يزال ماثلا بشكل أقوى في بلدان المغرب العربي، إذ أن نزع الاستعمار الذي عمل له ديغول لم يتبعه نزع الاستعمار من الذهنيات، وما الجدل حول تنقية الذاكرة والتوبة بالنسبة إلى الجزائر إلا دليل على هذا التخبط. وما ينطبق على الجزائر التي أرادوها إقليما فرنسيا لا ينطبق على المغرب، ويعود ذلك أيضا إلى سياسة مختلفة اتبعها الماريشال ليوتيه لجهة الإدارة والتعامل مع الناس. وهذه المعاملة المميّزة للمغرب استمرت بعد استقلاله، ونذكر أن جامع باريس الكبير الذي بنته الجمهورية الفرنسية الثالثة تقديرا لدور الجنود المسلمين وتضحياتهم في الحرب العالمية الكبرى، دشنه الملك المغربي محمد الخامس عام 1926.
وزيادة على المصالح المشتركة لجهة التجارة والاستثمارات ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب وأهمية موقع المغرب الإستراتيجي، كان موقف باريس لجهة رفض استقلال الصحراء وانحيازها لوجهة النظر المغربية (عكس أسبانيا التي تقترب من وجهة النظر الجزائرية) مثار انتقاد السلطات الجزائرية. ويشار إلى أن الأزمة الأخيرة لم تغير في هذا الموقف الفرنسي الذي تعتبره باريس مبدئيا وناتجا عن قناعاتها. بيْد أن واشنطن، كما باريس ومدريد، لم تضع يوما كل الثقل من أجل إيجاد حل لهذا النزاع الذي بلغ عمره أربعة عقود ويسمم العلاقات المغاربية ويضرب محاولات الاندماج الإقليمي، إلى حد أن المغرب طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتونس تراهن على الصلة مع أوروبا نتيجة اليأس من قيام لاتحاد المغرب العربي الذي ولد في 1989 وبقي حرفا ميتا.
من ناحية أخرى، يعتبر المغرب رقما مهما في حسابات فرنسا، إذ تشكل القارة السمراء وحوض المتوسط، أبرز دوائر السياسة الخارجية الفرنسية بعد أوروبا، وهو الأمر الذي عبَّر عنه الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في القمة الفرنسية الأفريقية التي عقدت في نوفمبر 1994، حيث أكد أنه دون أفريقيا لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين. وفي طنجة، قال نيكولا ساركوزي في أكتوبر 2007 “أريد أن أقول إن الوقت حان لننتقل من الحوار إلى السياسة ولنتجاوز النقاش ونبدأ البناء، هنا سيتحدد الجواب نفيا أم إيجابا عمّا إذا كانت الحضارات والديانات ستتجابه في أقسى الحروب. في المتوسط سيتقرر ما إذا كان الشمال والجنوب سيتجابهان أم لا. في المتوسّط سيتقرّر ما إذا كان الإرهاب والتطرف والأصولية ستنجح في فرض منطق العنف وعدم التسامح على العالم. هنا سنربح أو نخسر كل شيء”، لكن ما بين الخطاب والأفعال بونا شاسعا. في تجاوز للغة العواطف، تبقى لغة المصالح هي المقياس في علاقة فرنسية مغربية تمثل ضرورة للطرفين، وهي تهتز أحيانا لكنها لا تقع.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية بالمركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس