بحسب بعض الاقلام يبدو ان لا شيء يهدد الكيان اللبناني وميثاق العيش المشترك سوى اقرار صيغة الزواج المدني التي صارت تعقد مؤخراً عند كاتب عدل وتسجلها وزارة الداخلية. لبنان بلد هادئ ومستقر والمواطن يعيش في كنف دولته راضياً مرضياً يحصل منها على جميع حقوقه، الأساسية منها (ماء وغذاء وكهرباء وطبابة وعناية صحية وتعليم مؤمن ودخل مرتفع وشفافية تستحي منها النروج) الى الكمالية منها!!
والعلاقة بين مذاهبه وطوائفه وشعوبه تسير مثل السمن على العسل لا انقسام سياسيا بينها ولا خلافه.. البلد بألف خير ومؤسساته تعمل افضل من ساعة سويسرية «هاند مايد»!!!! فمن أين اخترعتم ما يعكّر صفونا «بعقد زواجكم المدني على الأراضي اللبنانية؟»
ففي بلد مشرّعة أبوابه ومعطلة مؤسساته ويعيش من دون رأس ومع برلمان «ممدد له» وحكومة تحكم على طريقة اللويا جيرغا وعبر طاولات حوار تغيب طويلاً وعندما تجتمع لا نأمل منها خيراً… طبيعي أن تهتز أركانه لممارسة قانونية تعترف بحق الفرد في اختيار نمط حياته خارج هيمنة الطوائف. لأن هذا الفرد نواة لمواطنين مستقلين أحرار يشعرونهم بتهديد عظيم لمصالحهم التي صرفوا الكثير من الجهد والوقت لتثبيتها…
من هنا، هرولة البعض ـــ هذا البعض يشمل رسميين وصحافيين ومفكرين ومنهم من يدعي الدفاع عن فكرة الزواج المدني، وعلى فكرة معظمهم متزوج مدنياً لكن في قبرص حرصاً على حسن السياحة مع الجوار!! ـــ للعرقلة. يشمل هذا البعض الاطراف المصلحية التي تثبت «جدارتها» الطوائفية والمذهبية في مسايرة الجماعات الحاكمة على حساب الافراد أضعف الحلقات: الافراد المهرطقين الذين يخلّون بالنظام الكوني ويطالبون بالاعتراف بزواجهم المعقود والمنفذ فعلاً في لبنان!!
… فلا وألف لا، تصرخ بعض القوى والاقلام الملتحقة بالجماعات؛ إذ هي تريد ان تودع لبنان الى نعشه الأخير، على ما يبدو، طاهراً نقياً من أي تلوث مدني. يموت لبنان بتولاً من دنس العقد المدني!!!
لنفحص الآن، عندما يكتب أحدهم «عدم موافقة الطوائف» ماذا يكون قاصداً بذلك؟ أليست الطوائف مكونة من افراد؟ هل تم استفتاؤهم جميعا والحصول منهم على تفويض بالنطق باسمهم؟ وماذا لو كان هناك فقط نسبة 10% خارج هذا الاجماع؟ تدوسونهم بنعالكم؟ ألم تلاحظوا حركة الشباب العلماني في تظاهراتهم الحاشدة التي لم تقسّمها وتذررها سوى الشقاقات السياسية التي يتربع على عرشها زعماء الطوائف والمذاهب؟ الا تلاحظون ان شباب 8 و14 «مجازياً» يختلفون على كل شيء ما عدا مطالبهم في ما يتعلق بالدولة المدنية من دون تكرار معناها؟
هنيئاً لكم جماعاتكم، لكن ماذا تفعلون بهؤلاء ولماذا مصادرة حقوقهم والنطق باسمهم تعسفا؟
أريحوا أنفسكم من الدخول في سجالات تقنية والعودة الى تحديد وظيفة الكاتب بالعدل وان الزواج هو حصراً من صلاحية الطوائف الدينية.. وكل هذه الذرائع: آن الاوان ليعترف أصحابها ان هناك فئة تزعم انها «مدنية» اذا كانت كلمة «علمانية» تثير الرعب، وهم ليسوا غير متدينين بالضرورة وغير ملحدين (دون مصادرة حرية الاعتقاد وحق الملحد في ان يكون كذلك). هؤلاء اللبنانيون، ربما الاكثر تمثيلا لفكرة لبنان الجوهرية، الذين يحملون الجنسية اللبنانية، مثلكم تماماً، عليهم واجبات ولديهم حقوق يريدون تطبيقها ويرفضون مصادرتها من قبلكم بهذه الطريقة. وتشير الاحصاءات، لمن يعرف قراءتها ان أعدادهم تتراوح بين 20 و40 % حسب هوى القارئ وميوله.
فإلى جميع مسؤولي وممثلي الطوائف والجماعات في السلطة السياسية على أشكالها: تريد هذه الفئة الحصول على حقها بالاعتراف بها وبحقوقها التي لا يحق لكم تجاهلها ومصادرتها بهذا الشكل المتعسف المجحف.. لا يطلب منكم سوى السماح بتسهيل حياة هؤلاء الشباب الذين يريدون ان يكونوا لبنانيين ويفخرون بذلك ولا يريدون أي ممارسة ازدواجية ولا وضع أقنعة ولا التلطي خلف ذرائع ممجوجة ولا الضحك على النفس قبل القوانين.. اتركوا لهم فسحة من الامل بالعيش كأفراد خارج قطعانكم التي تسوقونها بحسب مصالحكم ومحاصصاتكم وزبائنيتكم…
هم المواطنون الشرفاء الذين يريدون تثبيت حقهم بالخروج عن القطيع الطائفي… فما الذي يضيركم وَلِمَ هذا التعسف في بلد «الحريات الفلتانة»؟
القانون
القوانين قواعد وأحكام يتّبعها النّاسُ في علاقاتهم المختلفة وتنفِّذها الدّولةُ أو الدول بواسطة المحاكم. تكمن أهمية القانون في تنظيم الحياة بأشكالها كافة سواء كانت حياة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، بما يكفل للناس الحرية الكاملة في العيش وفي ممارسة الحياة بشكل يحقق لهم السعادة والاستقرار والتقدم. وهي وضعت لفك الاشتباك والاختلاف الذي قد يحصل بين أفراد المجتمع ووضع حد لأولئك الذين لا تقف أطماعهم عند حد، ما يفترض وجود معايير ومبادئ يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي وفك التصادمات والحفاظ على الحقوق المشروعة لكلّ فرد. وضعت القوانين إذًا للحفاظ على حرية الإنسان الفرد وحقوقه. وهي خاضعة للتعديل بالطبع بما يتلاءم مع ما يستجد من حاجات واوضاع.
الله لم يخلقنا طوائف كي تتحكموا بنا باسمها، خلقنا الله افرادا ويحاسبنا عما اقترفناه كأفراد ولن يحاسبكم عنا ولم يكلفكم بنا ـــ سواء كنتم رجال دين او زعماء طوائف، سياسيين او اداريين ـــ ولا طلب منكم النطق باسمنا ولا مصادرة حقنا بتقرير كيف نقيم عقد الزواج الذي ما فتئ الدينيون الطائفيون يدعون انه «عقد مدني» بسيط يكفي ان يعلن الطرفان «زوّجتك نفسي» مع شاهدين كي يصبحا زوجا وزوجة امام الله! فلماذا هناك من يريد لهم الذهاب الى قبرص كي يعترف بما هو بسيط ومدني اصلاً برأيكم؟ مع تهديد ضمني بأن استمرار المطالبة به قد يؤدي الى إمكانية إلغاء هذا الشرف!!
ان ما تقدمه الديموقراطيات عدا تجديد السلطة، ضمان حقوق الافراد الذي صار من المسلمات التي يطمح للحصول عليها كل شاب وشابة. إن التقدم الحاصل وغير القابل للنقض والمتمثل بحماية الافراد من قبل دولة القانون هو المطلب الإنساني لهذه الفئة التي تعي ان ضمان حقوق الافراد لم يعد قابلا المساومة؛ وهذه الحقوق ليست متعلقة فقط بالأشخاص ذوي الامتيازات او الناطقين باسم طوائفهم، بل يجدر ان تنطبق على الجميع، وتسري على جميع الرجال وعلى جميع النساء. فحيث لا يتم الحفاظ على حقوق الافراد، كأفراد وليس كجماعات، وعدم ضمانها من قبل الدولة تسود العبودية.
في بلد المحاصصة حيث الفئات السياسية التي لا تزال تصادر ارادة المواطنين عبر المحادل والبوسطات؛ أعطوا المدنيين حصة، فهذا هو المنطق الذي تفهمونه. طرحت فكرة الدولة المدنية في لبنان بسبب نظامه الطائفي؛ وبدل ان يكون تطبيق المحاصصة الطائفية والمذهبية هو الحل الآني لحفظ حقوق متساوية للجميع تحولت المحاصصة لتصبح مصدراً للفساد المؤسسي وسداً منيعاً في وجه تحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين وفي ظل القانون. إن أهم مبدأ للديموقراطية ألا يتعرض أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر.
من أهم مبادئ الدولة المدنية تأمين حرية المعتقد والمساواة والمواطنة ؛ فالفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بماله أو بسلطته، ولكن يُعرّف تعريفا قانونيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
أما في لبنان حيث تسود «الديموقراطية التنازلية» كما يسميها البعض، فيريدون اقناعنا انهم، حفاظا على الديموقراطية والعيش المشترك، يريدون إلغاء الحق المكتسب الذي تحقق؟!!
النظام اللبناني الجمهوري أمّن مشاركة جميع الشركاء في مكونات الدولة مثلما أمّن فصل السلطات، واحترم التنوع الديني والاجتماعي، والدولة تحترم جميع الأديان وتحمي حرية ممارسة العبادات شرط الحفاظ على النظام العام. لكن الدستور حفظ في الوقت نفسه حقوق الافراد وجعل حرية الاعتقاد مطلقة وغير محدودة.
لكنه ايضا جعل المشاركة السياسية موزعة بين الطوائف التي تمثل مجموعات / طوائف بدل الافراد؛ ففي لبنان الطائفة اكبر من الدولة. والحاضر الغائب في هذا الجدل هو الفرد!! الفرد اللبناني الآخذ بالبروز بشكل ملحّ وظاهر والذي يتم إهماله بإمعان. النظام الموجود يُضيّع حقوق الأفراد خاصة أولئك غير المنضوين تحت أجنحة الطوائف. ما يطرح السؤال الجدي: هل يريد هذا الفرد ان تحتكر الطائفة كل تمثيله السياسي؟ وتصادر حقه باختيار نوع عقد زواجه وشروطه؟
إن إقرار الزواج المدني الاختياري هو السبيل الى تطبيق روح الدستور، وهو الطريق الموصل الى الدولة المدنية التي تحفظ حقوق أفرادها مثلما تحفظ حقوق طوائفها. والآن هو أوان التطبيق اختيارياً.
وإذا كان كل هذا غير مقنع او غير مجدٍ مع ديناصورات الطائفية فليعطوا الشباب المدني حصته في هذا البلد، حصته كمدني خارج جماعاتكم الطائفية الذاهبة بالبلد الى التلاشي.
monafayad@hotmail.com